بقلم : سامي إبراهيم

عندما تتقولب العقول في قوالب جاهزة، عندها تُسجن الأفكار وتصبح حبيسةً لرؤية ضيقة ثابتة، وتتشرنق المنظومة الفكرية وتتقوقع ويُثبط نموها. تتحصّن هذه المنظومة ضد أي محاولة لفكّ أسرها، ليدخل العقل في حالة من التركيز الغيبي رافضاً تقبل أي فكرٍ من شأنه أن يؤثر على مسار التفكير الأوحد والموجّه مسبقاً، ليتم تمرير المتناقضات وتصبح منطقية لا تشكو أي خلل أو عيب. كان لا بد من ثورةٍ ضد الاستبداد والعبودية والطبقية والتأليه الفردي والتمايز الفئوي والاحتكار السلطوي أن تطرح المسألة العلمانية كإشكالية منهجية في الثورة السورية تنافس المنهجية الدينية التي تبدو الأبرز على الساحة السورية مستمدةً قوتها وجبروتها من الإرث التاريخي للحالة الدينية بما يحمله من عمق اجتماعي يجعل العقلية الدينية هي المحرك الأساسي والموجه الأول للسلوك. ولأنّ العلمانية تنطلق من أرضية الواقع المشّوه لتضع التشخيصات والتحليلات والأسباب الموضوعية التي أدت لتفسّخ المجتمع وتخلّفه وتحديد أسباب الكارثة، كان على الطرح العلماني في مواجهته للتطرف الديني أن يكون متلازماً ومرتبطا ارتباطا عضويا وثيقا بمواجهة الاستبداد السياسي، لأن الاستبداد والتطرف هما وجهان لعملة واحدة، كلاهما يطمسان العقل، كلاهما يحرّم، يؤلّه، يقمع ويقتل. أرعب نظام الاستبداد ثورةٌ تنادي بقيام مشروع حضاري تحرري في سوريا قائم على الحرية والعدالة لبناء دولة مدنية تعددية حديثة، فكان لابد لهذا النظام من أن يخلق ظروفاً مضادة للثورة تطيل عمر النظام وتقف في وجه نهضة الشعب السوري وسيره على درب الحرية، لينجح النظام في إدخال اليأس إلى قلب العلماني السوري ليجعله يرى بعين النظام اتساع الهوة بين (الفكر) التحرري التنويري الذي يقدمه ويجاهد من أجل تحقيقه من جهة وبين (الفعل) الذي يُمارس على أرض الواقع. وذلك من خلال تصوير الجزء الأكبر من الحراك الثوري بأنه حراكٌ أسود منقادٌ بأيديولوجية دينية إقصائية متطرفة مسلحة معبّرة عن شخصية الثوار، غايتها ضرب علمانية مزيفة رسّخها النظام في عقول الكثير من السوريين الرافضين للدولة الدينية التي رأوا نماذج لها خلّفت وأنهكت شعوبها بالمقدسات والمحرّمات. لينجح النظام بذلك في تدجين غالبية العلمانيين ببث مشاعر الإحباط واليأس من أي تغيير قادم، مشاعر محملة بالمخاوف من سوط الجلاد الديني وسيفه. وبالرغم من قلة قليلة من العلمانيين السوريين التي ظلّت وفية لما نذرت عقلها وقلبها له، لتجعل فكرها رائدا للثورة السورية وقلمها وقودا يؤجج لهيب الأشواق والأفئدة المتعطشة للحرية، إلا أنّ أغلب رواد الفكر العلماني في سوريا فشلوا في توحيد معالجتهم ورؤيتهم للحرية تجاه الاستبدادين: السياسي والديني. ليكيلوا بمكيالين ميزان التحرر.

هلعوا من مظاهر الأسلمة التي رافقت الحراك الثوري، فكبّلتهم مخاوف التغيير. فضلوا البقاء في قمقم نظام القمع والاستبداد، مع أنه الوجه الآخر للتطرف والقمع والاستبداد الديني. ولطالما كانت مهمة العقل العلماني تحرير الإنسان من ظلمات الكهف الذي يعيش فيه والعمل على إخراجه من أعماق قاع العبودية، فقد تخلى علمانيو سوريا بكل بساطة عما كرسّوا فكرهم من أجله ألا وهو \"التحرر\". لقد عميت بصيرتهم، فلم يروا في الثورة السورية سوى اللحى، ولم يسمعوا من أهدافها وشعاراتها سوى هتافات التكبير. لم يستطع علمانيو سوريا وبعض يسارييها أن يتقبلوا أي مظهر من مظاهر الأسلمة التي كانت أغلبها ردة فعل وتعبير على سنوات الكبت والقمع والقهر ضد هذا النظام الذي قمعهم بالعنف والبطش وتقنّع بالعلمانية. في الوقت عينه برّر هؤلاء العلمانيون ومرّروا للنظام تطرّفه الفاشي بالثوب القومي، غفروا بسرعة وبكل رحمة سنوات قمعه وقتله وتلطخه بدماء آلاف السوريين وعمليات النفي وفرض الأفكار وقناعات الحزب الواحد بالقوة على مدى أربعين سنة. غدا العلمانيون رهينة لمخاوفهم، ليسيروا في فلك هذه الطغمة الحاكمة جاعلين أقلامهم أبواقا للمستبد، مطبلين لعلمانية كاذبة ونفاق قومي، مزمرين لجيش سفاح لم تكن لملاحم بطولاته أن تتسطّر إلا على الشعب السوري. أربعون سنة من الاستبداد والقمع كانت كفيلة بأن تسلخ العلماني عن واقعه. ما انفك علمانيو سوريا يصورون ما يجري من حراك ثوري بأنه حركة سلفية تكفيرية يقودها متطرفون، وأن هذا الحراك ما هو إلا لضرب وحدة الشعب السوري وتقسيم أرض سوريا لدويلات مذهبية (وغضوا النظر عن عمليات التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي التي يقوم بها بشكل ممنهج وصارخ)، ولكن في الوقت ذاته مرروا للمستبد خطاياه وجرائمه وقمعه خلال عشرات السنوات التي حكم بها، أذاق بها الويلات للشعب السوري.

علمانيو سوريا صدّعوا رؤوسنا بالتحرر والحرية، وعندما دقت ساعة الحرية خانوا الحرية وخانوا أنفسهم قبل أن يخونوا الشعب السوري. وجد الشعب السوري علمانييه الشجعان الذين وقفوا في وجه النفاق الديني والمد المتطرف المتنامي مذهولين بما يجري، مصدومين لتسارع الأحداث، مهزومين أمام استبداد قمعهم عشرات السنين، خائفين من بعبع ديني لطالما كانوا السباقين في فضحه ومجابهته. يا ليتهم وجّهوا مدافع أقلامهم صوب معاقل الظلم والاستبداد. يا ليتهم نقدوا مظاهر الاستبداد وجرائمه بقدر ما نقدوا بعض الأفعال الفردية المرفوضة والمدانة التي تم ارتكابها هنا وهناك، والناتجة أصلا عن ردة الفعل من جرائم النظام، لكانوا حينها أوفياء للعلمانية وأوفياء لدعوتهم في الحرية والعدالة. علمانيو سوريا غفروا للنظام سنوات القهر والذل المظلمة الطويلة، ولكنهم لم يروا جريمة واحدة لنظام القمع والاستبداد! في الوقت الذي مابرح فيه هؤلاء العلمانيون أنفسهم يولولون لجريمة مدانة بشعة هنا وأخرى هناك لينسبوها باتهام مسبق لدعاة الحرية! كم سجينا رأوه يتعذب في سجون النظام (وهم الذين خبروا سجون النظام)؟! كم معتقلا رأوه يُعدم في زنزانات الموت؟! كم فتاة رأوها تُغتصب أمام والديها من قبل شبيحة النظام وأبطال جيشه العرمرم؟!. كم طفلا في عمر الورود رأوا أشلاءه الغضة متناثرة مبعثرة؟! كم جثة سحبوها من تحت أنقاض أبنية سوريا نتيجة قصف الجيش السوري؟! لا بل كم جثة رأوها تحرق؟! كم بيتا رأوا أزلام النظام ينهبوه ويحرقوه؟! نسي علمانيو سوريا من سرق نفط سوريا وغازها! أربعون عاما لم يخطر ببال تنويري ومتشدقي الحرية أن يتساءلوا لماذا لم توضع أموال النفط في ميزانية الدولة ولمن وأين ذهبت تلك الأموال ليتباكون الآن على أنبوب نفط ويتهمون بتفجيره دعاة الحرية من الشعب السوري! وكأن طائرات الجيش كانت ترمي الورود بدلا من براميل وصواريخ الحقد والموت! وكأن قذائف الدبابات والمدفعية تهدي الشعب السوري الغذاء والدواء! لم يرى علمانيو سوريا إلا مظاهر الأسلمة التي شلت تفكيرهم وأفقدتهم الحافز لينادوا بالحرية وقتلت لديهم روح الإباء والتمرد، ولكنهم تعاموا عن أفعال النظام الوحشية من تدمير منهجي للمدن والأحياء والقرى وتهجير ملايين السوريين ليعانوا البرد والجوع والمرض والموت والذلّ.


الآن وبعد سنتين من المجازر والدمار على ماذا يراهن العلمانيون! جرّب الشعب السوري هذا النظام أربعين عاما، وفشل هذا النظام في الاستمرار بحالة الاستقرار والأمان. النظام ينازع الموت، قد أمسى طريح الفراش، نخره الفساد وهدّه الفشل والتخطيط والهتاف والتصفيق والمسيرات، لقد قتله صوت النفاق، سمّمه كم الأفواه وتحريم النقد. ما يثير الأسف والحزن هو أن العلمانيين في سوريا قبل اندلاع الثورة في سوريا كانوا أكثر الناس فضحا لأعمال النظام الذي عمد وبشكل ممنهج ومدروس على نشر المد الطائفي والتعصب الديني وإعطاء المؤسسات الدينية ومشايخها الأهمية والبعد السياسي والاجتماعي مقابل إقصاء العلمانيين وتهميشهم ومحاربتهم ونفيهم.   يقيّم العلمانيون نتائج الثورة في سوريا وكأن الحرية قد تحققت! وكأن النظام قد سقط! يقارن العلمانيون عشرات السنوات من القمع والفساد والسجن والقتل ببضعة شهور من الفوضى على أنها الحرية المرجوّة والمراد تحقيقها! فقد العلمانيون حتى منطقهم! بحق السماء! ألم يتساءل العلمانيون : ماذا يختلف ظلمٌ عن ظلم؟! ماذا يختلف قمعٌ عن قمع؟! أي عقوبة ستكون أقسى؟ من ينتقد القائد أم من ينتقد التعاليم الدينية؟! أي تجديف ستكون عقوبته أرحم؟! التجديف على القائد أم التجديف على الإله؟!   بحق السماء! كيف لا يجد العلماني المساواة بين المستبد والمتطرف؟! لماذا يلعن العلماني التطرف ويحاربه بينما التطرف كان النتيجة الأولى للاستبداد؟! أي منطق هذا الذي يلعن السبب ويغفر للمُسبِّب؟!

كان على العلمانيين أن ينقلوا الوقائع كما هي، لا كما يريدها الطغاة. كشفت الثورة السورية علمانية هشة ضعيفة مهزومة. أظهرت الثورة السورية منطقا علمانيا متناقضاً. ديكتاتورية سلبت من العلماني أهمية الحياة التي يعيشها وقيمتها وشكلها ولونها ووزنها.   لجأ العلماني السوري إلى ميكانيزمات الدفاع لينقذ عقله من التناقض والصراع الناشئ في عقله عند دفاعه عن الظالم المستبد. لجأ إلى ميكانيزم التحويل، فما أن يبدأ أحد بنقد وتوصيف استبداد هذا النظام حتى يحول العلماني هذا النقد إلى نقد للتطرف الديني ومظاهر الأسلمة. دأب العلماني السوري على إظهار أن الطرف الآخر في المعادلة السورية هو أيضا لا يتمكن الخروج من دائرة الاتهام بريئاً، ليوقع نفسه لاشعوريا في دوامة لا خروج منها، فيتشبث بفكرة التطرف ويتناسى فكرة الاستبداد. . . العلمانية لن تنجح في أن تكون عصب الحياة السورية طالما وقعت ضحية خداع وتضليل النظام، هذا الخداع الذي كان الأجدر بالعلمانيين أنفسهم أن يكشفوه قبل غيرهم. قبل أن يطالب علمانيو سوريا بالتحرر عليهم أن يتحرروا من مخاوفهم. فكيف يمكن لأحد تحرير العقول وهو يعيش داخل قوقعة الخوف؟!. فليعلم علمانيو سوريا أن بقاء النظام هو استمرار للمجازر والجرائم. بقاء النظام هو استمرار للكارثة التي يعيشها السوريون. بقاء النظام هو استمرار لمعاناة ملايين السوريين. متى سيعرف العلمانيون أن تشويه الحقائق وتزييفها هو المسمار الذي يدق في نعش الحرية؟!. سوف يثور الشعب السوري في وجه أي مستبد، سواء تقنع بالقومية أو لبس ثوب الدين. ليست ثورة المتطرفين ولا التكفيريين ولا الإرهابيين، إنها ثورة الشعب السوري العظيم.