الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ

من الحرف إلى الروح: قراءة ١ صموئيل ١٥ (الحَرْم/الحرب) قراءةً تاريخيّةً–لاهوتيّة
لماذا يُعدّ نصّ ١ صموئيل ١٥ نصًّا صعبًا؟


يَجمع الفصل عقدًا ثلاثًا: "لغة الحَرْم" (ḥērem) التي تبدو أمرًا بإبادة، و"محكمة الطاعة" التي يُحاسَب بها شاول، و"توظيف الذبيحة" لتبرير العصيان. هذه العناصر تجعل النصّ نموذجًا من «الصفحات الغامضة» التي تتطلّب قراءة تاريخيّة–لاهوتيّة ضمن تطوّر الوحي لا خارجَه. هذا بالضبط ما تدعو إليه الكنيسة عندما تؤكّد أنّ إعلان الله «يتجلّى تدريجيًّا عبر التاريخ ويبلغ كماله في المسيح» (المجمع الفاتيكاني الثاني، الوحي الإلهي البنود ١٥-١٦). 

الحَرْم: معنى ليتورجي–حربي ليس "وصفة أخلاقيّة" للعنف
في العبرية، ḥērem يعني «تخصيص الشيء لله» بحيث يُمنَع استعماله البشري، وقد يأخذ شكل «الإتلاف الكامل». في أدبيات الحرب القديمة، تظهر مبالغات بلاغيّة («أفنيْنا… لم نُبقِ أحدًا») تُستخدم لتأكيد النصر والطاعة، لا كإحصاء حرفيّ للقتل. هذا السياق معروف في نقوش وأدبيّات الشرق الأدنى القديم، وقارنه الباحث K. Lawson Younger بمنهجٍ يُظهر أنّ «بلاغة الفتح» لا تُطابِق دائمًا الوقائع التاريخيّة حرفًا بحرف. (المراجع كلها في التعليق الأول).

 لذلك، قراءة ١ صموئيل ١٥ بطريقة حرفيّة صرفًا تُغفل السياق الأدبي–البلاغي للحرب المقدّسة في العصور القديمة. الغرض اللاهوتي هنا: "إبراز خطورة تحويل «ما حُرِّم للربّ» إلى مكسبٍ دينيّ يُباع ويُشترى"؛ ومن ثمّ تأتي صيحة صموئيل: «الطاعة خيرٌ من الذبيحة». 

ما الذي يُحاكَم عليه شاول؟
ليس موضوع الفصل أو الإصحاج «هل الرأفة أفضل من القسوة؟»، بل: "هل يجوز التفلّت من كلمة الله باسم طقسٍ دينيّ لاحق؟ يُظهر السردُ مَلِكًا يُكيّف الأمر الإلهيّ وفق منفعةٍ وسياسة، ثم يُلبِسه "ثوب العبادة". هنا يضع الكاتب الأساس اللاهوتيّ لسقوط شاول وصعود داود: "معيار الملك هو الإصغاء"، لا براعة التبرير الديني. (راجع مقدّمة صموئيل في موقع الأساقفة الكاثوليك بالولايات المتّحدة). 

من التاريخ إلى الخلاص: كيف ننتقل "من الحرف إلى الروح"؟
المجمع الفاتيكاني الثاني، الوحي الإلهي البنود ١٥-١٦ تبيّن أنّ العهد القديم يحمل «تربية إلهيّة» نحو المسيح؛ وفيه أمور «غير كاملة ومؤقّتة» تُفهَم في ضوء التتميم. إذًا تُقرأ نصوص الحرب ضمن "تدرّج" يُهذِّب التصوّراتِ القديمة ويقود إلى ملء الوحي في "المحبّة".

التعليم المسيحي ( البندان ١٢٢–١٢٣): كتب العهد القديم «مُلهمة وقيمتها دائمة»، لكن يُفسَّر معناها الكامل «في ضوء المسيح». ولا يُشرعِن النصّ العنفَ للمؤمن اليوم، بل يُسهم في مسيرة التوبة وتمييز إرادة الله.

اللجنة الكتابيّة الحبريّة (1993): تؤكّد شرعيّة وضرورة "المنهج التاريخي–النقدي"، وتُحذّر من الأصوليّة التي تُجمّد النصّ وتُنكر تنوّع أنواعه الأدبيّة ووظائفه.

رسالة "كلمة الله للبابا بندكتوسال ١٦: نخصّص فقرة للـ«صفحات المظلمة»، ويشدّد أنّ خطّة الله «تظهر تدريجيًّا وتتحقّق على مراحل»، وأنّ القراءة المسيحيّة تُتمّم العهد القديم في المسيح، فتُبطِل أيَّ تأويل يُحوّل العنف إلى قاعدةٍ أخلاقيّة للمؤمنين.

 الكتاب المقدّس والأخلاق، بالعربيّة دار الأكوينيّ:  توجّه الوثيقة القراءة الأخلاقيّة بحيث تميّز بين "وصفٍ سرديّ للعنف" وبين "تكليفٍ معياريّ"، وتحدّد ضوابط استنباط المبادئ الخلقيّة من «الكتاب كونه وحدةً قانونيّة».

 أصوات أكاديميّة مفيدة في الإطار نفسه
John J. Collins يُحلّل كيف يُستَخدم «سطوعُ اليقين الدينيّ» لتبرير العنف عندما تُقرأ النصوص خارج مسارها وتعدّد أصواتها؛ ويقترح قراءةً نقديّة تميّز بين سلطة النصّ ووظائفه.

* دراسات Younger حول «بلاغة الفتوحات» توضّح أن «لغة الإبادة» في العالم القديم تحمل "مبالغةً حربيّة" مقصودٌ بها الانتصار والطاعة، لا تقريرًا قانونيًّا دائمًا. هذا لا ينفي قسوة العالم القديم، لكنه يمنع إسقاط اللغة البلاغيّة على الواقع الراهن كتشريع.

من الناحية اللاهوتيّة–الراعويّة
١ صموئيل ١٥ لا يزوّدنا بترخيصٍ أخلاقيّ للعنف، بل يكشف خطورة "تديين العصيان": عندما تُستغلّ الذبيحةُ لتبرير التفريط بكلمة الله.

«من الحرف إلى الروح» يعني:
١. نقرأ الحَرْم ضمن لغته التاريخيّة وبلاغته القديمة؛
٢. نفهم أنّ مقصد الوحي يقود إلى "رحمةٍ وطاعةٍ صادقة"؛
٣. نُسائل كل خطاب يوظّف الكتاب لتبرير قسوةٍ أو إقصاءٍ اليوم.
 هذه المقاربة تجمع بين أمانةٍ للنصّ وولاءٍ لـ«قصد الله الخلاصي» الذي أعلن ذروته في المسيح. 

الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ