بقلم : مي مجيب 
   أتذكر حوارات الإعلام المرئى والمكتوب مع قداسة البابا الراحل البابا شنوده الثالث والتى كان يطرح قداسته فيها سؤالا دائما "هل يمكن أن تبقى مصر بدون أقباطها؟" كانت ردود الإعلاميين دائما تستنكر وتنفى أن مصر –مجتمعا ودولة- لايمكن أن تستقيم أو تبقى دون مكون أصيل ،بل أصلى ، من مكوناتها.
 
 ولكن ياقداسة البابا الراحل، حتما تشعر روحك الآن بما يحدث لوطنك ، ولانستطيع أن ننكر حقيقة، أقباط مصر الآن فى طريقهم إلى خارجها. ليست مبالغة أو حكم قيمى دون دلائل، ولكنى كمواطنة مصرية مسلمة أعلمك بذلك. كنت منذ يومين أجرى فحوصا طبية من أجل استكمال أوراق منحة مابعد الدكتوراه بالولايات المتحدة الأمريكية، وتصادف أن المستشفى المطلوب إجراء فحوصات بها هى ذات المستشفى التى يجرى بها الراغبون فى الهجرة من أبناء الوطن فحوصات وتحاليل طبية شاملة للتأكد من خلوهم من الأمراض المزمنة كى تكتمل إجراءات حصولهم على تأشيرة الهجرة الأمريكية.
 
 ذهبت إلى المستشفى مرتان ،الأولى لإجراء الفحوصات والثانية لاستلام النتيجة، وفى المرتين وجدت العشرات من أقباط مصر وأسرهم كاملة يصطفون من أجل الانتهاء من الفحوصات المطلوبة رغم ارتفاع أسعارها الشديد. ولم يمنعنى فضولى من السؤال والاستفسار، أقباط من شبين الكوم وملوى والمنصورة ، يسارعون بإنهاء الإجراءات من أجل الاستعداد لمقابلة القنصل الأمريكى بالقاهرة فى خلال أسبوعين بحثا عن ملاذ بديل وملجأ آخر ووطن جديد!!
 
 عشرات تختلف ظروفهم الاجتماعية وخلفياتهم التعليمية وانتماءاتهم السياسية، لايجمعهم –من وجهة نظرى- سوى الشعور الجارف بالخوف ،وبأن تراب مصر لم يعد لهم ، منهم من له امتدادات عائلية بالولايات المتحدة، ومنهم من كان شديد الصبر على مدار أكثر من عامين ، مثابرا فيهما لإنهاء كافة الإجراءات المطلوبة، ومنهم من تقدم بأوراقه ونجح فى الفوز بتأشيرة القرعة التى تمنحها الولايات المتحدة ل5000 مصرى كل عام ، ومنهم حديث الزواج الذى كان على مدار العامين الماضيين يعمل بدولة خليجية ، وبمجرد إخطاره من السفارة الأمريكية بقبول أوراقه ، ترك مكان "أكل عيشه" وعاد إلى مصر كفترة انتقالية أخيرة له ليتركها نهائيا وإلى الأبد.
 
  بحكم طبيعتى فى الانفتاح على الآخرين، تعرفت على كثيرين منهم ، الأب منير وأبنائه صمويل وجون ، زهور تتفتح ، أعمارهم أربع سنوات وسنتين ، أطفال ، مصر أولى بهم ، سيتركونها لخوف والديهما على مستقبليهما ، بحثا عن فرص أوفر ومستقبل أفضل. وأسرة أخرى حديثة ، لديها طفل عمره عام بالتمام، داعبته وسألت أمه عن اسمه ، قالت "شوشى" أو "شنوده" ، طفل براءة عينيه عندما تنظر إليها ينزف قلبك عندما تعلم أن عمره القادم لن يكون فى مصر ، وأن حياته ودراسته وعمله وأسرته ستكون فى مكان آخر فى حين أن بلاده تحتاجه ،ولكن يبدو أن القائمين على الحكم فيها لايحتاجون سوى المزيد من الدمار والتفسخ والتفرق والتحزب والشتات.
 
 قداسة البابا، لم يعد لأبنائك من المسلمين والمسيحيين من ملاذ سوى دعواتهم إلى الله أن تعود مصر وطنهم ، ملجأهم، مكانهم ، أرضهم. فصلِ لنا كما كنت تفعل دائما، تضرع إلى الله أكثر، اطلب منه أن يرفع عنا الغمة وأن تتبدل الأماكن ،عسى أن آتى إلى المستشفى لفحص جديد بمنحة جديدة لأجد (آخرين) يصطفون لاستكمال إجراءات الخروج من وطن لم ولن يكون لهم.