كتب - محرر الاقباط متحدون 
وجه القمص يوحنا نصيف، كاهن كنيسة السيدة العذراء بشيكاغو، رسالة خلال تذكار الأربعين لوالدته، تحت عنوان "قوة الصلاة": يارب خلي بابا يبطل السجاير".
 
وجاء في الرسالة : كانت هذه أوّل صلاة علّمتنا إيّاها والدتي الحبيبة، لي ولأخي الأصغر، عندما وعيتُ تمامًا على الدنيا، وأنا دون الثالثة من عمري. فقد كانت هي تصلّي لأجل هذا الأمر منذ بداية زواجها في عام 1957م، واستمرّت حتّى وُلِدنا في أعوام 1962 و1964 على التوالي، ثمّ أرادت أن تُشرِكنا معها في الصلاة.. والحقيقة أنّ استجابة صلواتنا لم تستغرِق سِوَى بعض الشهور القليلة، فقد قرّر أبي المبارك الإقلاع عن التدخين -مَرّة واحدة- في 6 أبريل من عام 1966م، بعد أن كان مُستَعبَدًا لهذه العادة السيّئة لمدّة 26 سنة؛ ووقتها كان عُمري في حدود ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.
 
لقد كانت أمّي تؤمن جدًّا بقوّة الصلاة، فهي سلاحها الأوّل والوحيد تقريبًا، مع الوداعة والخضوع.. كانت تحفظ مزامير الأجبية كلّها من كثرة ترديدها، وكانت تحفظ أيضًا صلوات التسبحة والمدائح باللغتين القبطيّة والعربيّة.. وبدأت تشجّعنا على الصلاة بالمزامير ونحن في بداية مرحلة إعدادي.. وظلّتْ تواظب على الصلاة والتسابيح طوال عمرها، حتّى الساعات الأخيرة من حياتها؛ لدرجة أنّها كانت تردّد معنا المزامير والإبصاليّات والتماجيد بفرح أثناء زيارتنا لها وهي في العناية المركّزة قبل انتقالها!
 
 كانت أمّي تسندنا بصلواتها باستمرار في كلّ ظروف حياتنا، وكُنّا نشعر بقوّة هذه الصلوات.. كما كانت تَذكُر أمامنا النماذج الروحيّة الطيّبة، ولا تُخفِي وسط كلامها أنّها تريدنا أن نكون قدّيسين ناجحين مثل تلك النماذج الجيّدة.
 
 تمتّعت أمي بشخصيّة قويّة، وبذكاء ملحوظ.. ولم تكُن قوّتها نابعة من غِنَى مادّي أو نفوذ أُسَري أو مركز أو سُلطة، بل كانت قوّةً وثباتًا داخليًّا نابِعَين من علاقتها القويّة بالله وصلواتها. فلم تكُن مثلَ قصبةٍ تحرّكها الرياح، بل عاشت ثابتة في وصايا المسيح بملء حرّيتها.. كما كانت أيضًا تلميذةً نجيبةً في داخل الكنيسة، تتعلّم وتنمو كلّ يوم في محبّة الله ومعرفته!
 
على الرغم من قوّة شخصيّتها إلاّ أنّها كانت متسامحة إلى أقصى حدّ، وتتمتّع بقلب طيّب مملوء بالمحبّة للكلّ. فقط كانت تأخُذ حذرها من الناس المُزعِجين، وتبتعد عن الشرّ؛ وفي نفس الوقت تصلّي من أجل الجميع.
 
 من الأمور التي أثّرَت في حياتها أنّها كانت منجذبة بشدّة للتيّار الروحي القوي الموجود في كنيسة مار جرجس سبورتنج؛ ولسبب القرب الشديد لمسكننا بالإسكندريّة من مسكن أبينا القديس القمّص بيشوي كامل (ثلاث دقائق مشيًا على الأقدام)، فقد كانت تذهب إليه كثيرًا، وتجلس معه وتسترشد بنصائحه الروحيّة، وتحكي لنا باستمرار عنه.
 
 
كان لها أخت في نفس عُمر أبونا بيشوي، ومرضت بالسرطان مثله، وتنيّحت أيضًا بعد نياحته بحوالي أربعة شهور.. ففي أثناء إحدى مراحل المرض وكانت أختها في المستشفى، دَعَتْ أبونا بيشوي لزيارتها والصلاة لها، فذهبا معًا، وتحدّث أبونا بيشوي مع أختها بكلمات تعزية عن قدرة الله ونعمته ومحبّته، وصلّى لها.. ثمّ بعد نياحتها بثلاثة أيّام في يوليو 1979م رأتها أمي في حالة جميلة هادئة، فقرّرت أن تلبس ملابس بيضاء بدلاً من السوداء، واستمرّت تلبس هذه الملابس التي أحبّتها لمدّة قاربت العشرين عامًا!
 
    تعلّقت أمّي أيضًا بشخصيّة تاسوني أنجيل زوجة أبينا بيشوي، وكانت تلازمها باستمرار في السهر بمزار أبينا بيشوي طوال الليل أثناء أعياد القدّيسين.. وهذا كان يتكرّر شهريًّا عِدّة مرّات، في أعياد العذراء (21 من الشهر القبطي)، ورئيس الملائكة ميخائيل (12 من الشهر القبطي)، مع أيّة أعياد أخرى لقدّيسين محبوبين لها. كانت تلك السهرات تبدأ الساعة 11م وتنتهي بحضور القدّاس الأوّل في الكنيسة الذي يبدأ في الساعة السادسة صباحًا. وكانت تشمل صلاة نصف الليل (مزمور مزمور بلحن هادئ)، مع التسبحة بألحانها، ومدائح وقراءات وتماجيد طوال الليل.
 
    أحبّت أمّي أيضًا الخدمة، فكانت تذهب للافتقاد مع صديقة روحيّة لها، كما كانت تذهب في قافلة لخدمة القرى أسبوعيًّا مع الدكتور طلعت عبده حنين.. وكانت متميّزة في خدمة الكلمة وفي الترانيم؛ فقد كانت أذنها موسيقيّة جدًّا وصاحبة صوت جميل. وعندما اهتمّت تاسوني ماري (زوجة أبونا تادرس وأخت أبونا بيشوي، متّعها الله بالصحّة) بتأسيس خدمة اجتماع السيّدات في كنيسة مار جرجس سبورتنج، كانت أمّي مسؤولةً عن الترانيم في هذا الاجتماع.
 
كانت دراسة الكتاب المقدّس من أهمّ أسرار قوّة الخدمة في كنيسة مارجرجس سبورتنج؛ فكانت الخلوات كلّها تدور حول دراسة سفر من أسفار الإنجيل. وكانت أمّي تحضر جميع هذه الخلوات، وتدوّن ملاحظاتها في إنجيلها أو في كرّاسات عديدة أخرى. وكانت أيضًا تحبّ حضور الخلوات مع تاسوني ماري، سواء في الفيلا التي كُنّا نقيم بها في مدينة المحموديّة، أو في بيت الخلوة الذي بناه بأبيار نيافة المتنيّح الأنبا يوأنّس أسقف الغربيّة، أو في أماكن أخرى.
 
    أثناء حضور أيّ قدّاس أو عشيّة، كانت أمّي تحرص على كتابة عظات أبونا تادرس وأبونا لوقا أثناء إلقائها، وتراجعها بعد أن تعود للمنزل، وأحيانًا تقرأ لي منها، واستمرّت على هذه العادة لسنوات طويلة.. وكانت تقول لي: الكتابة تساعدني على التركيز؛ فإنّي إن لم أكتب العظة وأنا أسمعها، لا أستطيع التركيز فيها جيّدًا، وأنساها بسرعة!
 
 
هكذا عاشت أمّي بروح الصلاة والهدوء والمحبّة كلّ أيّام غربتها على الأرض، فكانت بركة كبيرة لنا في كلّ مراحل حياتنا، وكانت أيضًا سبب بركة لكثيرين.. وأخيرًا استدعتها السماء، فلبّت النداء، وذهبت لتَنعَم مع الآباء، في مواضع الراحة والسلام والفرح والمجد الأبدي؛ في المواضع المُخَصَّصَة لأبناء الملكوت!.