بقلم الأب يسطس الأورشليمى
وبيته رمز للكنيسة المُقدسة، يشتاق السيد أن تُفتح أبواب كنيسته فيدخل إليها كُل غريب، يغتسل الكُل بدمه الثمين، ويتمتعُون بعطايا الرُوح القُدس، ويصيرُون من أهل بيت الله، فإن كانت البشرية تُمثل قافلة دائمة الحركة، أبواب مراحمه مفتُوحة لهُم، ليتمتعُوا ببركات عمله الخلاصي، أثناء رحلتهُم في هذا العالم..
لم يعد أحد على المسرح، فقد جلس أصدقاء أيُوب الثلاثة على الأرض، ليس لديهُم كلمة واحدة ينطقُون بها، ولم يعد أمام أيُوب بعد دفاع أكثر مما نطق به، فصارت الحاجة إلى تدخل وسيط، وكان أليهُو بن برخئيل البُوزي هُو ذاك الوسيط الذي ظهر في هذه الإصحاحات..
تدخل أليهُو هُنا طبيعي، فهُو كشابٍ كان يليق به أن ينتظر حتى يُفرغ الشيُوخ ما في جعبتهُم، وهذا ما كان مُتبعاً في الشرق الأوسط، لم يتدخل قبل ذلك، لأنه لم يرد أن يُقاطع الشيُوخ، كما أراد أن يتأنى ليرى ويدرس فكر كُل شيخٍ منهم، ويرى ما تسفر عنه هذه المناظرات في النهاية، كان يُجيد الاستماع، والآن يتقدم أليهُو مستأذناً أن يعبر عن رأيه في المشكلة كاستجابة لصرخات قلب أيُوب كمَن جاء سابقاً لوجه الرّب..
ببدء حديث أليهُو يُمكن القُول إنه قد انتهى ليل المباحثات الطُويل، وبدأ فجر يوم الحكمة يُشرق ليُبدّد الظُلمة، فقد امتاز بإدراكه وتقديره لغنى نعمة الله التي لم ينشغل بها الشيُوخ كثيراً في حديثهُم..
العامل الرئيسي الذي دفع أليهُو للكلام إدراكه أن أصدقاء أيُوب قد فشلُوا في الرد على تساؤلات أيُوب بخصُوص أحكام الله نحُو الأبرار والأشرار في العالم، ومن جهة أخرى لام أليهُو أيُوب أنه وإن كان باراً، غير أنه تطلع إلى الله كمَن يعامله كعدُوٍ، أنصت إلى صرخات أيُوب طالباً وسيطٍ للتدخل بين الله وبينه، وظن أنه قادر أن يقُوم بهذا الدُور، وكان أليهُو يود أن يدفع أيُوب عن كبريائه ليُمارس التوبة عن خطيته..
أولاً: من خصائص خطابات أليهُو وجُود شعُور عميق باحترام الله، أننا نُؤدب الآن من الرّب لكي لا نُدان مع العالم (1كو32:11)..
ثانياً: برز أليهُو كوسيطٍ، ولكن شتان بينه وبين المسيح كوسيطٍ للعهد الجديد، من حيثُ أن أليهُو مجرد رمز لم يحل اللغز كاملاً..
ثالثاً: أوضح أليهُو أنه يُوجد سبب آخر للألم ليس كعقاب للخطية فقط، بل كوسيلة لتشجيع أولاد الله وتنقيتهُم وتطهيرهُم..
رابعاً: يبين أليهُو سبب سكُوته بأن الأصحاب المتكلّمين كانُوا شيُوخاً وهُو صغير السن، لكنه تدخل عندما فشلُوا في الرد..
خامساً: يتحدى أليهُو أيُوب ليتكلّم إذا كان عنده أي شيء يستحق أن يُقال وإن لم يستطع أن يقُول كلام حكمة فليصغِ إليه:
(1) تفنيد شكوى أيُوب الأولى: أنه اشتكى من استبداد الله في أعماله، وإنه إله غير عادل في تصرفاته مع عدم مراعاة البرّ في معاملات الله له، ويُؤكد أليهُو أن الله عادل، وأن الإنسان يحصد ما يزرع، سواء كان الزرع شراً أو خيراً، وأن السُلطان خاص بالله وحده..
(2) تفنيد شكوى أيُوب الثانية: وهي إن البرّ لا يجلب منفعة للبار، فلا يكُون أفضل مما لو كان خاطئاً فاجراً، إذا كان الله يظهر كأنه غير مكترثٍ بصراخ المُتضايق، فهُو لا يجهل الشرّ والدعُوة تأتي أمامه، وأنه يتدخل في عدلٍ، ينقصهُم شعُور الثقة والإيمان بحُكم الله البار..
بعدما صحح أليهُو ما ظنه خطأ في آراء أيُوب، يُبدي ما يظهر له أنه إدراك أصح لله، ويمكن أن يُقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:
أولاً: عظمة الله بإظهار عنايته في معاملة الناس..
ثانياً: تُظـهر ظواهر الأفلاك العجيبة عظمة الله..
ثالثاً: دعُـــوة أيُوب إلى التأمل في كلمات الله..
لم يُذكر أليهُو قبل ذلك ربما لأنه واحد من بين جمهُورٍ كثيرٍ ممن أحاطُوا بأيُوب، لا عمل لهُم سوى الاستماع للحوار الذي دار بين أيُوب وأصحابه، أما ما شجعه على الحديث فهُو سماعه أن الحكمة نازلة من عند الله، تُوهب للفتيان كما للشيُوخ، راجع (أي6:32-10)..
توقف الأصدقاء الثلاثة عن الحديث، أما لأنهُم رأوا الله نفسه يدافع عنه بكُونه باراً، أو لأن أيُوب يحسب نفسه باراً، فلا نفع من الحوار معه، والواقع أنهُم فشلُوا في تأكيد اتهاماتهم ضد أيُوب، لأنهُم حملُوا في قلُوبهُم وأفكارهُم نية غير صادقة، فجاءت اتهاماتهُم لا وزن لها..
في الإصحاحات السابقة رأينا أيُوب لا ينكر أن له خطايا، وأنه كان يعترف بها، لكنه كان متألماً لما حلّبه مما شوّه صورته، وأعثر أصدقاءه فيه، وقُول: لم تقولُوا الصواب عن عبدي..
فكف هُؤلاء الرّجال الثلاثة عن مُجاوبة أيُوب لكونه باراً في عيني نفسه، فحمى غضب أليهُو بن برخئيلالبُوزي من عشيرة رامٍ على أيُوب حمى غضبه لأنه حسب نفسه أبر من الله..
أليهُو اسم عبري معناه إلهي هُو، يُشير الغضب هُنا إلى انفعاله الداخلي وغيرته العظيمة للدفاع عن عدل الله وبرّه ورعايته، يقُول الكتاب:
لا تبرّر نفسك أمام الرّب، والحقيقة أن أيُوب لم يفكر هكذا، لكن أليهُو هُو الذي فهمه بهذه الطريقة، أما أيُوب فكانت فكرته أن الله هُو المسئُول عن نكباته، ومع هذا لم يسيء إلى الله متهماً إياه بالظُلم..
أليهُو أو الله هُو يهوه، برخئيل تعني الله يبارك، جاء اسمه وشخصيته يُعلنان عن دوره كرسُولٍ بين الله وأيُوب، يُهيء الأخير ليتمتع برُؤية الله القادم في الزوبعة، حمل ظلاً للوسيط الحقيقي يسُوع (أي23:33-26)، وقد أشار اسمه واسم والده أن هذه العائلة اتسمت بالتقوى..
اختلف أليهُو عن الأصدقاء الثلاثة من جهة نية الطرفين، إذ لم يحمل أليهُو حقداً أو حسداً من جهة أيُوب مثل هُؤلاء الأصدقاء، ومن جانب آخر لم يتهمه بأنه مرتكب شرُور خفية خطيرة أو أنه مرائي، إنما ما انتقده فيه، أنه في حديثه لم يبرّر الله، بل ما يشغله هُو تبرّير نفسه أمام الله كما أمام الناس حتى وإن خشيه أن يتعثرُوا فيه كرجُل الله..
لقد أدانُوا أيُوب لكنهم عجزُوا عن الإجابة على حجّجه بصفة عامة، وفي تبريره لنفسه، حقاً لقد جلسُوا صامتين، لكنهُم لم يُغيرُوا أفكارهُم من جهته، وفي نفس الوقت فشلُوا في الرد عليه (3)..
ما أخطأ فيه أصدقاء أيُوب هُو: عدم تمتعهُم برُوح الحنُو مع إنسانٍ مُجرب مُتألم مثل أيُوب، لقد اتهمُوه بالرياء وأنه شرّير، ومع عجزهُم عن إثبات ذلك لم يُريدُوا أن يتراجعُوا، بلغُوا إلى هذه النتيجة والحكم على إنسان مقدماً قبل محاورته، ولم يكن لهم هدف سوى تحطيمه..
لعل من سمات أليهُو الرائعة، أنه وقد امتلأ قلبه حنُواً على أيُوب، لكنه كوسيطٍ بين الطرفين، لم يأخذ موقف المحاباة لأيُوب على حساب أصدقائه، بل برقةٍ وتعقلٍ أبرز خطأ الطرفين، فبدأ بأيُوب حتى يُعطي للأصدقاء الفرصة أن يقبلُوا كلماته بجدية ويُعيدُوا تقييم حوارهُم..
وعلى أصحابه الثلاثة حمي غضبه لأنهُم لم يجدُوا جواباً واستذنبُوا أيُوب، وكان أليهُو قد صبر على أيُوب بالكلام، لأنهُم أكثر منه أياماً فلما رأى أليهُو أنه لا جواب في أفواه الرجال الثلاثة (أي3:32)..
انتظر أليهُو حتى صمت الشيُوخ، وتوقفُوا عن الكلام، بانتظاره أظهر حكمة الشيُوخ وهُو شاب، فقد صمت حين تكلّمُوا ليس لأنهُم كانُوا أحكم منه وإنما لأنهُم كانُوا أكبر منه سناً، التزم بالترتيب الحسن، والتدبير اللائق، وعندما صمتُوا عن فشلٍ مع إصرار على ما في فكرهُم، تكلّم برُوح الحقّ في جرأة مع تعقل..
وقد أوصى الكتاب بتكريم الشيُوخ في الرّب:
لا تهن أحداً في شيخوخته، فإن الذين يشيخُون هُم منا (سيراخ7:8)..
لا تزجر شيــخاً، بل عظه كأبٍ، والأحداث كإخوةٍ (1تي1:5)..
لا تقبل شِكايةً على شيخٍ إلا على شاهدين أو ثلاثة (1تي19:5)..
فأجاب أليهُو بن برخئيل البُوزي وقال: أنا صغيرٌ في الأيام، وأنتم شيُوخٌ، لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدي لكُم رأيي، قلت الأيام تتكلّم، وكثرة السنين تُظهر حكمةً، ولكن في الناس رُوحاً، ونسمة القدير تُعقلهم، ليس الكثيرُو الأيام حكماء..