د.ماجد عزت إسرائيل
 شكَّل المباشرون الأقباط ركيزة أساسية في إدارة الجباية خلال فترة الحملة الفرنسية على مصر (1798–1801)، إذ احتكروا مفاصل العمل داخل الجهاز المالي من خلال سيطرتهم على المعلومات المتعلقة بالنظام الضريبي وآليات تحصيل الإيرادات. ويُعزى ذلك إلى تفوقهم التعليمي وتميزهم في المهارات الحسابية، بالإضافة إلى اعتمادهم على التقويم القبطي «التوتي» الذي منحهم دقة زمنية في ضبط الدورات المالية، فضلاً عن ممارستهم لهذه المهام توارثًا عبر أجيال. وقد برز دورهم بوصفهم قوة تنظيمية ومعرفية فاعلة، لم تتمكن الإدارة الفرنسية من السيطرة عليها بسهولة، مما جعلهم محور الحركة والسكون داخل جهاز الجباية. وقد أتاح لهم هذا الاحتكار المعرفي الحفاظ على مكانتهم، ومكنهم من خوض شكل خاص من أشكال المقاومة الهادئة غير التصادمية، التي نجحت في إبقاء امتيازاتهم التاريخية في إدارة الحسابات المالية. وتشير الوثائق المعاصرة للحملة إلى أن المواجهة بين الفرنسيين والمعلمين الأقباط لم تتخذ طابعًا عسكريًا أو صداميًا مباشرًا، بل جاءت في صورة صراع إداري خفي، هدف إلى الحفاظ على النفوذ المالي ومنع الفرنسيين من بسط هيمنتهم الكاملة على مصادر الإيرادات. وعلى الرغم من تشكيل لجان متعددة وجمع تقارير موسعة، فإن الإدارة الفرنسية خلال الحملة عجزت عن الإحاطة بكل تفاصيل النظام المالي المحلي،وفشلت في استيعاب الأساليب المرنة والتحايلية التي مارسها المباشرون في التعامل مع دافعي الضرائب وإعادة تدوير الفوائض المالية.

  ونتيجة لهذا العجز، واجهت الحملة الفرنسية أزمة مالية خانقة أثّرت على قدرتها على تنفيذ مشروعها الإمبراطوري في الشرق.  وقد دفع ذلك الفرنسيين إلى محاولة تفكيك النفوذ القبطي عبر إعادة هيكلة الإدارة الجبائية، وتبسيط قوائم الحسابات، وتوزيع السلطة المالية على أكثر من جهاز رقابي، سعيًا لتقليص دور الوساطة التي كان يحتكرها الأقباط. كما سعت الإدارة الفرنسية إلى جعل العلاقة مباشرة بين الفلاحين والسلطة الجديدة بهدف القضاء على الوسيط المالي، إلا أن الفترة الحرجة للحملة لم تسمح بإقصاء المباشرين الأقباط بسهولة، وهو ما ساعد على استمرار الدور القبطي في الإدارة المالية حتى بدايات القرن التاسع عشر. يثير هذا الواقع تساؤلات حول طبيعة هذا النموذج الإداري: هل كان نفوذ المباشرين الأقباط مجرد نتيجة ظرفية لفراغ إداري فرضته ظروف الاحتلال، أم أنه يمثل امتدادًا لهيمنة مالية واجتماعية كانت سائدة قبل دخول الفرنسيين؟ تشير المصادر إلى أن إحكام المباشرين سيطرتهم على أسرار النظام المالي المحلي جعلهم قادرين على فرض شروط تعاملهم حتى على الإدارة الفرنسية، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى الاعتماد تدريجيًا على كوادرها الخاصة في مراقبة عملهم وجمع المعلومات المالية تمهيدًا لفهم بنيته الداخلية.ومن هنا، يتضح أن دور المباشرين الأقباط خلال فترة الحملة الفرنسية لم يكن مجرد موقع إداري عابر، بل شكّل نموذجًا لسلطة مالية قائمة على المعرفة والاحتكار الرقابي، وأسهم في بلورة مفهوم "المقاومة الإدارية الصامتة" في سياق السيطرة الاستعمارية على مصر.

 وفي هذا السياق، برزت مجموعة من الشخصيات القبطية التي شكّلت النخبة المالية والإدارية في مصر قبل الحملة الفرنسية وأثناءها (1798–1801م)، إذ تربع عدد من كبار الكُتّاب والمباشرين والمعلّمين على عرش الإدارة المالية، وأسهموا في ضبط شؤون الجباية والإيرادات. فقد عُدّ لطف الله أبو يوسف وجرجس السروجي وبانوب الزفتاوي وغبريال السادات ويوسف الألفي ومنقريوس المورهلي ورزق الله إبراهيم بدري ولطف الله أبو شاكر والمعلم نيروز ورزق الله البدري والمعلم مرقوريوس الشهير بديك أبيض من كبار المعلّمين الذين لعبوا دورًا محوريًا في تشكيل البنية المهنية لجهاز الجباية. كما برزت أسماء ارتبطت بالمباشرة بشكل مباشر، مثل نوروز نوار الذي عُرف بكونه كبير المباشرين، ورزق بن عطا الله وإبراهيم الجوهري اللذين عُرفا بأنهما من كبار المباشرين الذين تمتعوا بنفوذ واسع داخل الجهاز المالي. وعلى المستوى الكتابي، ظهر المعلم واصف وديك أبيض ضمن كبار الكُتّاب الذين اضطلعوا بأدوار توثيقية ورقابية أساسية في تسجيل الحسابات وإدارة الدفاتر.

  كما برزت خلال فترة الحملة الفرنسية شخصيات أخرى كان لها أثر مباشر في التعامل مع سلطة الاحتلال، مثل جرجس الجوهري الذي عُدّ من كبار المباشرين، إلى جانب شخصيات مثل المعلم ملطي ويعقوب حنا وأنطون أبو طاقية والمعلم فلتاؤس، ممن أسهموا في استمرار حضور العنصر القبطي داخل الجهاز المالي خلال الحملة، سواء بوصفهم وسطاء بين الفرنسيين والمجتمع المحلي، أو كممارسين لدور إداري قائم على المعرفة المتوارثة في نظام الجباية.

  ويتضح مما سبق أنّ المباشرين الأقباط لم يكونوا مجرد موظفين داخل الجهاز المالي المصري زمن الحملة الفرنسية، بل كانوا يشكّلون بنية نخبوية متماسكة تمتلك رأس مال معرفيًّا ومهنيًّا متوارثًا، يمكّنها من الهيمنة على مفاصل الجباية والتحصيل. وقد اعتمد هذا النفوذ على مزيج من التعليم المتقدم، والخبرة الحسابية المتراكمة، وإتقان تقنيات التوقيت المالي القائم على التقويم القبطي، فضلاً عن تأصيل اجتماعي جعلهم وسطاء لا يمكن تجاوزهم بين الدولة والمجتمع الضريبي. وبفضل هذا الموقع الوسيط، تحوّل دورهم إلى ما يشبه “سلطة مالية ظل”، مارست نوعًا من المقاومة الإدارية الهادئة أمام المشروع الفرنسي، وأفشلت محاولات إعادة هيكلة الجهاز المالي بما يتعارض مع مصالحهم. وقد عزّز هذا الدور حضور شخصيات قبطية بارزة — من كبار المباشرين والكتّاب والمعلّمين — الذين نجحوا في ترسيخ استمرارية النفوذ القبطي داخل الإدارة المالية قبل الحملة وأثناءها، بل واستمرت آثاره حتى بدايات القرن التاسع عشر، ما يؤكد أن هذه الظاهرة كانت امتدادًا تاريخيًا لنخبة مالية مستقرة، وليست مجرد إنتاج ظرفي لمرحلة الاحتلال الفرنسي.