القمص يوحنا نصيف
    قصّة الله مع النفس البشرية منذ بدايتها هي قصّة حُبّ.. وفي كلّ فصل من فصول القصّة يتجلّى الحُبّ بصورة لها ملامحها الجميلة المتميّزة.

    في البداية خلق الله النفس على صورته ومثاله، وزينها بالعقل، وأعطاها سلطانًا على الخليقة، ووهبها إمكانية الشركة معه، والتمتّع بالحياة الأبدية السعيدة..

    ثم لما سقط الإنسان بغواية الحيّة، لم يتركنا الله بل تعهّدنا بالوصايا والأنبياء وبتعاليمه المحيية..

    وأخيرًا أشرق علينا نحن الجالسين في الظلمة وظلال الموت، عندما تجسّد وكَلَّمنا في ابنه ربنا يسوع المسيح.

    في سِفر حزقيال الأصحاح 16، يحكي الله قصّة حبّه للنفس البشرية البائسة الساقطة، مُمَثَّلةً في مملكة إسرائيل.. ويصوِّرها بفتاة مطروحة في الحقل منذ ولادتها، وهي متروكة بدمها ولم تشفق عليها عينٌ تهتم بها، بل غارقة في القذارة ومُهْمَلة تمامًا.. ثم يقول لها: "مررتُ بكِ ورأيتك، وإذا زمنُك زمن الحُب..." (حز8:16) إنّه زمن افتقاد الله للنفس وإظهار حبّه واشتياقاته لها!

    "مررتُ بكِ.. بسطتُ ذيلي عليكِ.. (إحاطتها بالرعاية) دخلتُ معكِ في عهدٍ.. (عهد حُبّ وعهد حياة). غسلتُكِ بالماء (المعمودية) ودهنتك بالزيت (مِسحة الروح القدس بالميرون) وألبستُكِ مُطَرَّزة (بِرّ المسيح).. وحلَّيتُكِ بالحُلِيّ (الفضائل وثمار الروح القدس).. وأكلتِ السميذ والعسل (خبز الحياة النازل من السماء: جسد ودم ابن الله).. وجَمُلْتِ جِدًّا جِدًّا فصَلُحْتِ لِمَملكة.. خرج لكِ اسمٌ في الأمم لجمالك لأنّه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليك يقول السيد الرب" (حز8:16-14).

    هذا ما يريد الله أن يفعله معنا عندما يمرّ بنا؛ فإن سَلَّمنا نفوسَنا له، وتجاوَبنا مع عمل نعمته، نصير فعلاً صورة مُصَغَّرة جميلة منه. وإذا كان هو "أبرع جمالاً من بني البشر" (مز2:45)، فنحن مدعوّون لننال نصيبًا من هذا الجمال الفائق!

    الحقيقة أنّ حُبّ الله يدفعه دائمًا للمرور علينا، وافتقادنا باستمرار، لكي يَهبنا ثلاث عطايا ثمينة:
1- يحررنا من كلّ القيود:

    فهو يؤكِّد لنا: "إن حرركم الابن (من الخطيّة) فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو36:8)، إذ أنّ "مَن يعمل الخطيّة هو عبدٌ للخطيّة" (يو34:8). ولهذا يعلّمنا القدّيس بولس الرسول قائلاً: "اثبتوا إذن في الحرية التي قد حررنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضًا بنير عبوديّة" (غل1:5)، ويُقدّم نصيحة أخرى ثمينة: "فإنكم إنما دُعيتم للحرية أيها الإخوة. غير أنه لا تُصَيِّروا الحرية فرصة للجسد، بل بالمحبة اخدموا بعضكم بعضًا" (غل13:5).

2- يقيمنا من قبورنا ويرفعنا:
    فهو الذي "أقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات.." (أف6:2).. ويدعونا أنّ نتعلّق بالمجد السماوي وليس أمجاد هذا العالم الزائلة، كما يؤكِّد لنا القدّيس بولس: إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض" (كو1:3-2).

3- يُحَرِّكنا ويَسحَب قلوبنا لحُبِّه وتبعيّته وخدمته:
    وهنا سنجد أمثلة كثيرة لأشخاص حرّرهم المسيح من قيود الشرّ، وأقامهم من قبورهم ومستنقع شهواتهم.. فتحرّكوا بقوّة نحو السماء وساروا وراءه يخدمونه  بكلّ قلوبهم.. مثل:

   - السامرية.. التي مرّ عليها المسيح فوجدها مأسورة غارقة بائسة يائسة.. لقد  تعب من أجلها في سَفَرٍ شاق وحوار طويل، وعندما حررها من قيود الخطية وأقامها من قاع بئر الشهوات، تركت جرّتها وحياتها القديمة وذهبت تكرز به في كلّ المدينة "فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريّين بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد أنّه قال لي كلّ ما فعلت" (يو39:4).

    لقد مَرّ المسيح عليها، فحوّلها من كارثة إلى كارزة!

   - زكّا.. الذي مَرّ عليه السيد المسيح في أريحا خِصّيصًا، واصطاده من فوق الشجرة، ودخل بيته وقدّم له حبَّه واهتمامه، فشبع زكّا بمحبة المسيح وانفكّت قيود محبّة المال مِن على قلبه..

    وإذ وجد زكّا اللؤلؤة الكثيرة الثمن فقد مضى وباع كلّ ماله واشتراها (مت46:13). وهكذا بدأ في توزيع الأموال التي كان سابِقًا يجمعها ويتمسّك بها.. واختبر أنّ السعادة هي في العطاء أكثر من الأخذ (أع20: 35).

   - بارتيماوس الأعمى.. الذي كان يجلس وسط الشحاذين على أبواب أريحا (مر10) وعندما مرّ المسيح عليه انتهز الفرصة وصرخ "يا يسوع ابن داود ارحمني" ولم يسكت حتى ناداه المسيح وأعطاه البصر "فللوقت أبصر وتبع يسوع في الطريق"..

    لقد تَرَكَ مِهنة الشحاذة الحقيرة، وغادر أصدقاء السوء والجلوس في الأرض، ونَبَذَ الخمول والبلادة والظلام.. وانطلق في موكب نوراني مع المسيح، يتبعه حيثما يذهب، ولسان حاله يقول: "شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كلّ حين.. يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (2كو14:2)، (رو37:8).

    + هكذا يمرّ بنا دائمًا راعينا الصالح، ربّنا يسوع المسيح، ليكشف لنا عن محبّته، ويغمرنا بمراحمه.. فيُحَرِّرنا من قيودنا، ويُقيمنا من ضعفِنا وموتنا، ويُجَدِّد حياتنا ويرتقي بنا.. وأخيرًا يسحبنا وراءه -بجاذبيّة حُبّ لا تُقاوَم- في طريق الحياة والمجد الأبدي!

القمص يوحنا نصيف
أكتوبر 2025