بقلم: جمال رشدي
لماذا محافظة المنيا بالذات؟
تلك المحافظة التي تمثل قلب الصعيد، ومهدًا للحضارة المصرية القديمة، وعنوانًا للأصالة والوطنية، ومع ذلك، تشهد بين الحين والآخر أحداثًا طائفية مؤسفة، آخرها ما شهدته مدينة بني مزار، تلك الأحداث التي تجرح وجدان الوطن وتترك أثرًا سلبيًا على صورته في الداخل والخارج.
 
ورغم تشابه المشهد في كل مرة من حيث الأسباب وردود الأفعال والحلول المؤقتة، إلا أن تكرارها يدل على غياب المعالجة الجذرية. فالتعامل الأمني وحده لا يكفي، لأن التاريخ لا يقرأ الظواهر، بل يفتش في أعماق الأسباب.
 
جذور تاريخية للفكر المتطرف
من يتتبع جذور تلك الظاهرة يجدها تمتد إلى ما بعد اغتيال الرئيس الشهيد محمد أنور السادات على يد خالد الإسلامبولي، حين تسرب الفكر الجهادي إلى بعض قرى ومراكز المنيا، مستغلًا هشاشة الوعي الديني والثقافي، ومع مرور الوقت، وتحت حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، أصبحت المحافظة واحدة من أهم بؤر النشاط الفكري للجماعات المتشددة.
 
فقد سمح النظام آنذاك — عن قصد أو إهمال — بترك قاع المجتمع تحت سيطرة جماعة الإخوان والتنظيمات الجهادية مقابل استقرار شكلي في الحكم، فانتشر الفكر المتطرف بين الشباب، وتكونت شبكات اجتماعية واقتصادية مرتبطة بجماعة الاخوان ، حتى أصبحت المنيا نموذجًا حيًا لهجين ثقافي خارج هوية الوطن في القرى والنجوع.
 
ويكفي أن نتذكر أن سعد الكتاتني، القادم من محافظة سوهاج، استطاع في انتخابات عام 2005 أن يكتسح دائرة المنيا البرلمانية رغم أنه ليس من أبناء المحافظة ولا يملك أي ظهير عائلي أو قبلي، مما يعكس عمق التغلغل التنظيمي للإخوان في تلك الفترة.
 
تراكمات اجتماعية واقتصادية
هذا الإرث الثقيل انتقل من مرحلة إلى أخرى، فأصبح من الصعب اجتثاثه بالوسائل الأمنية فقط.
فمحافظة المنيا اليوم تعاني من فقر مدقع، وأمية واسعة، وبطالة مرتفعة، وازدياد سكاني مقلق يتجاوز 70 ألف نسمة سنويًا، ما يجعلها من أكثر المحافظات طردًا للسكان نحو العاصمة والمدن الجديدة.
وتفاقمت معها العشوائيات، والبلطجة، والفوضى الاجتماعية، حتى باتت أي شرارة بسيطة قادرة على إشعال نزاع اجتماعي يتحول سريعًا إلى فتنة طائفية.
 
الأمن الوطني ودوره الإنساني والوطني
وأنا كابن لمحافظة المنيا، أعيش فيها وأعرف كل مكوناتها وتفاعلاتها، أرى بعيني حجم الجهد الذي يبذله جهاز الأمن الوطني في المحافظة.
إن هذا الجهاز، الذي يعمل في صمت، يضم رجالًا على أعلى مستوى من الوطنية والانضباط والأخلاق والوعي الثقافي والإنساني، يتحملون مسؤولية جسيمة في الحفاظ على سلامة المجتمع واستقراره، ويواجهون كل يوم تحديات فكرية واجتماعية واقتصادية معقدة تتجاوز حدود الأمن التقليدي.
 
إنهم يتعاملون مع ملفات متشابكة تجمع بين الفكر والعقيدة والتاريخ والفقر والبطالة، وهي ملفات تتطلب عقلًا واعيًا وضميرًا حيًا أكثر مما تتطلب قوة السلاح.
لقد استطاع رجال الأمن الوطني في المنيا أن يمنعوا عشرات الأزمات قبل وقوعها، وأن يحتووا ما يقع منها بأقل خسائر ممكنة، في ظل ضغوط مجتمعية واقتصادية هائلة، وغياب حلول تنموية جذرية.
 
نحو رؤية وطنية شاملة
ولأن معالجة هذه الأحداث أعمق من مجرد ضبط أمني، فإن الحل يجب أن يكون مجتمعيًا وتنمويًا وثقافيًا.
الجلسات العرفية التي تُعقد عقب كل أزمة ليست حلًا، بل أصبحت جزءًا من المشكلة، لأنها تكرّس منطق الترضية على حساب القانون.
لذلك أقترح تشكيل لجنة حكماء من أبناء محافظة المنيا تضم قامات ثقافية، واجتماعية، وعلمية، تعمل بإشراف وتنسيق مع جهاز الأمن الوطني، ليكون دورها مؤقتًا ومحدودًا في إدارة الأزمات واحتوائها فكريًا واجتماعيًا، على أن يكون تنفيذ القانون هو الأساس غير القابل للمساومة.
 
أقباط الخارج بين الاستغلال والمسؤولية
وفي هذا السياق، يجب التفرقة بين من يستغل تلك الأحداث من بعض الأصوات في أقباط الخارج لأهداف سياسية أو إعلامية تستهدف الإساءة للقيادة السياسية ومؤسسات الدولة، وبين رموز وطنية مخلصة من أقباط المهجر تسعى لحماية صورة مصر وتدافع عنها في الخارج.
 
ولذلك، لابد من فتح قنوات اتصال وتواصل مباشر بين لجنة الحكماء المزمع تشكيلها وبين الرموز الوطنية من أقباط الخارج، لخلق جسور من الثقة والحوار، تُبرز الحقيقة بعيدًا عن التزييف، وتؤكد أن الدولة المصرية لا تفرّق بين أبنائها، وأن ما يجمع المصريين في الداخل والخارج أكبر من أي حادث طارئ.
 
التنمية... الطريق الحقيقي إلى السلام
إن الأمن وحده لا يصنع سلامًا دائمًا، بل التنمية هي التي تزرع الأمل وتقتل الفتنة.
ولذلك أقترح أن تتبنى الدولة مشروعًا قوميًّا في محافظة المنيا يقوم على إنشاء مراكز تدريب مهني متكاملة في كل مركز، تُدار بأحدث النظم التعليمية وتضم تخصصات متنوعة تتناسب مع متطلبات السوق تمنح المتدرب شهادة موثقة ، على أن يتم ربط هذه المراكز مباشرة بمشروعات الإنتاج، والشركات، والمصانع، والمناطق الاستثمارية، بحيث يجد كل شاب طريقًا للعمل الكريم داخل محافظته.
 
بهذا فقط يمكن أن نغلق أبواب التطرف والجهل والبطالة، ونفتح نوافذ الأمل أمام الأجيال الجديدة، فالعقل المستنير لا يُغريه التطرف، والمواطن المنتج لا يسقط في فخ الكراهية.
 
ختامًا
المنيا ليست محافظة طائفية، بل هي قلب وطني نابض يحتاج فقط إلى مزيد من الوعي والتنوير والتنمية.
والأمن الوطني يؤدي فيها دورًا وطنيًا عظيمًا يستحق الدعم لا الانتقاد، لأن من يقف على الخط الأمامي للدفاع عن سلامة المجتمع يعرف أن المعركة الحقيقية ليست ضد طائفة أو جماعة، بل ضد الجهل والفقر والتشويه الفكري.