بقلم نادر شكري
على أعتاب هضبة الجيزة، حيث تتعانق الرمال مع التاريخ، يطل المتحف المصري الكبير كتحفة معمارية وإنسانية تجمع بين عبق الماضي وروح المستقبل، ليصبح أعظم مشروع ثقافي وأثري في القرن الحادي والعشرين، وأكبر متحف مخصص لحضارة واحدة في العالم.
إنه ليس مجرد مبنى لحفظ الآثار، بل رمز وطني عالمي يروي قصة مصر منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، ويجسد إرادة الحياة والإبداع لدى الشعب المصري.
• تاريخ فكرة البناء
تعود فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير إلى عام 2002، حين قررت الدولة المصرية إنشاء صرح يليق بعظمة الحضارة الفرعونية ويستوعب كنوزها النادرة التي ضاقت بها المتاحف التقليدية.
وفي عام 2003، أطلقت مصر مسابقة معمارية دولية كبرى شارك فيها أكثر من 1500 مهندس ومكتب تصميم من مختلف دول العالم، وفاز بها مكتب Heneghan Peng Architects الأيرلندي بفضل تصميمه المبتكر الذي يجمع بين الهندسة الهرمية القديمة والتقنيات المعمارية الحديثة.
بدأت أعمال التنفيذ الفعلية عام 2010، واستمرت عبر مراحل متتابعة بدعم من الحكومة المصرية وتمويل من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا)، حتى أصبح المشروع اليوم أيقونة معمارية بتكلفة تتجاوز مليار دولار أمريكي.
• الموقع والمساحة
يقع المتحف على مساحة تقارب 500 ألف متر مربع (ما يعادل 120 فدانًا)، على بعد كيلومترين فقط من أهرامات الجيزة، ليشكّل امتدادًا بصريًا ومعماريًا للهضبة الأثرية.
صُمّم الموقع بحيث يربط بين المدينة الحديثة غرب القاهرة والعالم القديم في الجيزة، ليكون جسرًا حضاريًا بين التاريخ والحداثة.
• التصميم المعماري الفريد
جاء التصميم في هيئة مثلثات هندسية ضخمة من الحجر الجيري والزجاج، مستوحاة من شكل الأهرامات لتُعبّر عن الخلود والتناسق الكوني.
تتميز الواجهة الأمامية للمتحف بكونها شفافة ومائلة بزاوية هندسية تتيح رؤية الأهرامات من داخل القاعات الزجاجية، في مشهد بصري يوحي بأن الأهرامات والمتحف كيان واحد متصل.
• ويتكوّن المتحف من ثلاثة مستويات رئيسية:
البهو العظيم (Grand Hall):
يمتد على ارتفاع 36 مترًا، يتصدره تمثال الملك رمسيس الثاني، وتُزيّنه المسلة المعلقة الفريدة من نوعها في العالم، التي تُعرض بحيث يرى الزائر نقوشها من جميع الجهات، في تجربة بصرية مدهشة.
منطقة العرض الرئيسي:
تمتد على مساحة 84 ألف متر مربع، وتضم قاعات عرض متدرجة تُبرز تطور الحضارة المصرية عبر العصور باستخدام إضاءة ذكية وأنظمة عرض رقمية تفاعلية.
متحف توت عنخ آمون:
يضم المجموعة الكاملة للملك الشاب — نحو 5000 قطعة ذهبية وأثرية تُعرض لأول مرة مجتمعة، داخل صالات مجهزة بأحدث أنظمة الحفظ والتحكم في المناخ.
• الربط بين المتحف والأهرامات
أُنشئ محور بصري مباشر يربط المتحف بمنطقة الأهرامات عبر ممشى سياحي واسع مزروع بالنخيل والأشجار المحلية، مع مسارات مخصصة للعربات الكهربائية لنقل الزوار.
وتم تصميم الواجهة الخلفية للمتحف بزوايا هندسية تُمكّن الزائر من رؤية الأهرامات خلف تمثال رمسيس الثاني في مشهد يُجسّد وحدة الزمان والمكان.
كما يربط المتحف بشبكة الطرق السياحية الجديدة التي تبدأ من ميدان الرماية وحتى بوابة الأهرامات الحديثة، مرورًا بمركز الزوار والمطاعم والمحال التراثية.
• كنوز المتحف ومقتنياته
يضم المتحف أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل كل فترات التاريخ المصري القديم، من عصور ما قبل الأسرات حتى العصرين اليوناني والروماني.
ومن أبرز معروضاته:
تمثال رمسيس الثاني في البهو الرئيسي.
المجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون لأول مرة.
المراكب الشمسية المكتشفة بجوار الهرم الأكبر.
تماثيل ملوك الدولة القديمة، ومقتنيات من الذهب والمجوهرات الملكية والبرديات النادرة.
كما يضم المتحف مركزًا عالميًا للترميم والبحوث الأثرية، يُعد من أكبر مراكز الترميم في الشرق الأوسط، مجهزًا بمعامل حديثة وأجهزة فحص دقيقة للحفاظ على التراث المصري.
التقنيات والإضاءة
يتميز المتحف بنظام إضاءة طبيعي يعتمد على توجيه ضوء الشمس من خلال واجهته الزجاجية المثلثة، بحيث يتغير الضوء تدريجيًا داخل القاعات وفقًا لحركة الشمس، محاكيًا الطقوس المعمارية للمعابد الفرعونية القديمة.
وفي المساء، تُضاء الواجهة بأنوار ذهبية ناعمة تعكس صورة الأهرامات، لتبدو وكأنها تحاورها عبر الزمن.
• رمزية حضارية ورسالة عالمية
لا يهدف المتحف فقط إلى عرض الآثار، بل إلى تقديم تجربة معرفية وإنسانية متكاملة، تعبر عن هوية مصر الثقافية ودورها العالمي في حماية التراث الإنساني.
إنه مركز للبحث والتعليم، ومنصة للحوار بين الحضارات، ورسالة من مصر إلى العالم تؤكد أن الحضارة المصرية لم تكن ماضيًا فحسب، بل هي مستقبل الإنسانية.
• صرح عالمى
بافتتاح المتحف المصري الكبير، تؤكد مصر للعالم أنها تحافظ على ماضيها العريق وتبني مستقبلها بثقة، ليبقى هذا الصرح شاهدًا على العبقرية المصرية التي جمعت بين الحجر والضوء، بين الأهرامات والحداثة، بين التاريخ والخلود.من هنا بدأت الحضارة… ومن هنا تستمر.





