بقلم الأب يسطس الأورشليمى
مدينة كورنثوس: مدينة يونانية متميزة، تبعد حوالي 40 ميلاً غرب أثينا، وقد اشتهرت المدينة حتى دعاها شيشرون: نُور كُل اليونان، وعُرفت بغناها بكونها مدينة صناعية ضخمة، خاصة في بناء السفن حوالي عام 800 ق.م

وتضم كورنثوس ميناءين هما: كنخريا، وليخيوم، ومما يزيد من أهميتها، أنها تقع على الطريق البري الذي يربط بين الشرق والغرب، فربطت روما عاصمة العالم الروماني بالشرق..

هذا وقد اشتهرت كورنثوس كمركز للفنون المختلفة، خاصة الفن المعماري، فهي مدينة مفتوحة على العالم، ليس فقط كأعظم مدينة تجارية يونانية، وإنما أيضاً لإقامة الدورات الرياضية مرة كل عامين..

هدمتها الجيوش الرومانية سنة 146 ق.م، وأعاد بناءها يوليوس قيصر عام46 ق.م، وجعلها مقاطعة رومانية، وصارت فيما بعد عاصمة إقليم أخائية وموطن الحاكم الروماني، وتحت حكم مجلس الشيوخ..

نشأة الكنيسة المسيحية في كورنثوس..
أسسها القديس بولس الرسول في خدمته التبشيرية الثانية، أنظر(أع18) ومع ما أتسمت به المدينة من فساد، نجحت خدمته هناك وبقى 18 شهراً وهي أكبر مدة قضاها الرسول في مدينة للخدمة بعد مدينة أفسس..

 بدأ خدمته في المجتمع اليهودي يُكرز لليهود والأمم الدخلاء، وكان يُقيم مع أكيلا وبريسكلا ويعمل معهما في صناعة الخيام (أع3:18-10)، ونجح في اجتذاب كريسبس رئيس المجمع وأهل بيته، لكن اليهود قاوموه بشدة فقال لهم الرسول: دمكم على رؤوسكم، أنا بريء من الآن أذهب إلى الأمم وذهب إلى يوستس، حيث تكونت كنيسة تضم الكثيرين..

في البداية يبدو أنه وجد جواً رهيباً من الفساد والصراعات بين سكان المدينة القادمين من دول مختلفة لأهداف تجارية مع انحطاط في الأخلاق فأراد أن يرجع إلى تسالونيكي (1تس16:2-18)، لكن خطته تغيرت تماماً بإعلان إلهي، فقد أمره الرب أن يتكلم بجسارة ويشهد له..

وكان نجاح الكرازة في كورنثوس رمزاً لنجاح الخدمة بين الأمم، وهو يُعلن عن عمل نعمة الله الغنية في تقديس الفاسدين الذين يرتمون في حضن الله، فقد نجح الرسول في كسب نفوس كثيرة من بين التجار والبحّارة والمصارعين المحترفين في الدورات الرياضية، وهؤلاء جاءوا قادمين من روما، واليونان، ومصر، وآسيا الصغرى، مع اختلاف جنسياتهم وثقافتهم وإمكانياتهم وخلفياتهم الدينية، كانوا مطالبين بالخضوع لروح الله الذي يقدسهم ويهبهم روح الوحدة، والانسجام ككنيسة مقدسة للرب يسوع..   

بعد أن ترك الرسول المدينة زارها أبلّوس، وكان يهودياً اسكندرياً ذا ثقافة عالية، وبعد قبوله الإيمان المسيحي صار يُكرز، وكانت خدمته ناجحة في كورنثوس (1كو5:3-9)، غير أن البعض أساء استخدام اسمه..

فظهرت خصومات، وانشقاقات في الكنيسة، حيث أدعى البعض أنهم أتباع بولس الرسول أول كارز للمدينة، والفريق الثاني أتباع أبلوس من أجل اقتدار حكمته، وفريق ثالث حسب نفسه من أتباع بطرس الرسول، وفريق رابع حسبوا أنفسهم تبع السيد المسيح، رغبة في التحرّر من كل التزام، حتى يسلك كل واحد حسب هواه، بحجة أنهم لا ينتسبون إلى قيادات بشرية..

ملامح الكنيسة ومتاعبها..
    (1) غالبيتهم من الأمم (1كو2:12)، ومع ذلك كان بها عدد كبير من اليهود، يخاطبهم الرسول بولس بقوله: آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم اجتازوا في البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً (1كو1:10-11)..

  (2) لقد عانت الكنيسة ليست فقط من الخصومات، وإنما كانت تحت ضغوط عظيمة بسبب فساد المدينة، من عبادة أوثان وسحر، والارتباط بالأرواح الشريرة والإباحية، وهذا ما دفع الرسول إلى كتابة هذه الرسالة لإعلان أن الله إله نظام، لا إله تشويش، ليكن كل شيء بلياقة وبترتيب ..

  (3) انشقت الكنيسة إلى أقسام كثيرة، فالبعض حسبوا أنفسهم أكثر كمالاً من الباقين، وآخرون رفعوا قضايا في محاكم زمنية من أجل المال وتشامخ آخرون بسبب المواهب الروحية، مما سبب انشقاقاً في الكنيسة...

غاية وهدف الرسالة..
إذ ترك بولس الرسول مدينة كورنثوس بعد خدمة ناجحة لمدة 18 شهراً تحركت الأحداث بسرعة فائقة، وحدث انشقاق خطير، وظهرت أربع فرق متضاربة، كما ظهرت مشاكل سلوكية وعقائدية تفقد الكنيسة قدسيتها وتحطم إيمانها، لهذا كان بولس الرسول قلقاً على الشعب..

وبجانب المشاكل الكنسية الخاصة بالانقسامات، عانت الكنيسة من بعض المشاكل اللاهوتية العقائدية والأخلاقية والاجتماعية والتعبدية والأخروية، فقد وجد أشخاص يهتمون بالفلسفات النظرية، والحكمة البشرية دون الاهتمام بالإيمان،  لذا جاء مُوضُوع الرسالة: ربنا يسُوع المسيح..

أصالة الرسالة إلى أهل كورنثوس..
لقد سجل لنا الرسول بولس في رسائله الأربع وهي: كورنثوس الأولى والثانية، وغلاطية، ورومية: دفاعاً لقبول الأمم الإيمان المسيحي الحيّ وترجع جميعها إلى رحلته التبشيرية الثالثة، حيث جذبت الكنيسة الكثيرين من الأمم في بلاد كثيرة، وتحمل لنا هذه الرسائل فكر القديس بولس المتسع لانطلاق البشرية من الحرف القاتل إلى الروح المحيي، وقلبه المفتوح لكل إنسان بلا محاباة، وأعماقه التي تشتهي خلاص كُل بشر..  

أولاً: الشهادة الخارجية..
تحتل الرسالتان: الأولى، والثانية لأهل كورنثوس، مركزاً واضحاً في أقدم قوائم كتابات بولس الرسول، فقد جاء في القانون الموراتوري عام 170 م، اسم الرسالتين على رأس التسع رسائل الموجهة إلى الكنائس وأعلن أنهما كُتبتا لمنع الانشقاق في الكنيسة بسبب الهرطقات..

ثانياً: الشهادة الداخلية..
نلاحظ أن: الرسالتان مشحونتان بالعلامات الداخلية على اصالتهما كرسالتين للرسول بولس، فهما تحملان انسجاماً وتوافقاً عجيباً مع ما ورد في قصة سفر أعمال الرسل التي سجلها القديس لوقا الإنجيلي..

وواضح أن الكاتب هو رسول الأمم العظيم بما يحمله من حنو ومحبة وغيرة متقدة على خلاص النفوس وما يُمارسه من أسفار كثيرة وتعب في الكرازة، فحينما يتحدث عن خمسمائة أخ رأوا المسيح القائم من الأمُوات، وكانوا لا يزالوا أحياء حتى كتابة الرسالة، إنما يخبرهم عن قصة القيامة  والتي كانت تبدو لغير المؤمنين أضحوكة سخيفة لا يصدقها عقل..

سمات ومميزات الرسالة..
(1) الرسالة هادئة، تُقدم حلولاً عقلية إيمانية واضحة ومقبولة، تتسم بالحزم والجدية، تُدين بقوة كل خطأ أو فساد أو انحراف إيماني، فتُزيل الشكوك وتسند الإيمان، خلال الحق الإلهي ونعمة الله، بروح الحب الصادق
(2) جاءت الرسالة في ترتيب دقيق فائق، فلا يجد القاريء صعوبة أن يتتبع الكاتب وهو ينتقل من نقطة إلى أخرى بكل سهولة..

(3) تُقدم لنا هذه الرسالة أحاديث عقائدية هامة تخُص: أقنومي المسيح والروح القدس، والإفخارستيا، والقيامة، كما أنها تكشف لنا عن: طبيعة الاجتماعات، والخدمة في الكنيسة الأولى، وتقدم صورة عن الأخطاء التي لحقت بالمؤمنين القادمين حديثاً من الوثنية..

ومن الملامح الرئيسية لهذه الرسالة هو إبراز قوة الصليب بكونه قوة الله وحكمته للخلاص، إنه القوة المحركة لكي تُغير أساسات الإنسان الداخلي وتُجدد الأعماق، وهذا تحقق بالكرازة بالمسيح المصلوب، والصليب ليس ضيقاً وحرماناً، بل هو أساس أتساع القلب والفكر بالحب والتمتع بالمجد..

أقسام الرسالة الرئيسية..
أولاً: الوحـــــــدة الكنسية..
ثانياً: معالجة الانحطاط الخــلقي..
ثالثاً: مشــــــاكل اجتماعية..
رابعاً: معالجة مشـــاكل تعبدية..
خامساً: مشـــــاكل أخروية..
سادساً: الجمــع لفقراء أورشليم..

المشاكل التي تُعالجها الرسالة وحلولها..
(1) انشقاقات في الكنيسة (1كو11:1؛ 3:3)، وحلها الافتخار بالصليب قوة الله للخلاص (1كو18:1)..
(2) تهاون مع الانحطاط الخُلقي (1كو1:5-7)، وحلها عزل الخبيث..
(3) التجاء الأخوة إلى المحاكم (1كو1:6)، القديسون سيدينون العالم..
(4) الزواج والبتولية (1كو7)، وحلها لكل واحد موهبته (1كو24:7)..
(5) العلاقات الزوجية (1كو3:7)، الامتناع للعبادة مؤقت وبموافقة..
(6) عدم دخول الطرف الآخر في الإيمان، غير المؤمن مُقدس فيه..
(7) ما ذبح للأوثان، وحلها نعمل كل شيء لمجد الله (1كو39:7)..
(8) تغطية الرأس والاستهتار بالتناول، الخضوع للنظام (1كو16:11).
(9) إساءة استخدام المواهب، المحبة أعظم من المواهب (1كو13)..
(10) إنكار القيامة، وحلها قيامة السيد المسيح شاهد عملي (1كو15)..
(11) الجمع للقديسين، وحلها ربط العطاء بالعبادة والحب (1كو16)..

الوحدة الكنسية والحلول الإيجابية..
(1) اقتناء الحكمة الإلهية عوض البشرية، وتتركز حكمة الله في الحب الإلهي الفائق للإنسان، والمُعلن خلال الصليب الذي ترفضه الحكمة البشرية فاليهود يرون في الصليب عثرة، واليونانيون يرون فيه جهالة، أما المؤمنون فيجدون في الصليب قوة الله للخلاص، وغلبة ونصرة لهم (1كو18:1)..

(2) السلوك الرُوحي عوض السلوك الجسداني الطبيعي، ويقسم الرسُول بُولس البشرية إلى ثلاث فئات وهي:
الروحانيون: أناس يهتمون بالروح لتكون قائداً للجسد، وذلك بعمل الروح القدس فيهم، حتى تبدو أجسادهم خفيفة، كأنها تتمتع ببعض سمات الروح، ويتقدس الإنسان بكليته، كمن صار كله روحاً..

الجسدانيون: أناس يهتمون بالجسد ليكون قائداً للروح، فيبدو الإنسان كأنه كله جسد، فيسيطر الجسد على كل مشاعره وعواطفه وقدراته..
الطبيعيون: أناس لا يطلبون ما هو لله، لكنهم يريدون أن يُمارسوا بعض الفضائل كعمل أخلاقي بحت، فيظنون أنهم قادرون أن يسيطروا على أفكارهم وحواسهم وعواطفهم وسلوكياتهم وكلماتهم، والإنسان الطبيعي هو الذي يعيش بحكمة بشرية، متجاهلاً عمل الله..

(3) التعلق بالسيد المسيح لا بالخدام (1كو5:3)، إننا غرسه، فلسنا من صنع الزارع ولا الساقي، بل مسيحنا هو الذي يُنمي، نحن هيكل الله، ورُوح الله ساكن فينا، نحن بناء الله، وهو الأساس، أنظر (1كو10:3)..

(4) عدم إدانة الخدام (1كو1:4-5)، فإن كنا لا نفتخر بهذا الخادم أو ذاك، فليس لنا حق إدانتهم، إنما نترك الرب يدينهم في يومه العظيم..
(5) الإقتداء بالخدام المتواضعين (1كو6:4-13)، لأننا صرنا منظراً للعالم، للملائكة والناس، نحن جهال من أجل المسيح، وأما أنتم فحكماء في المسيح، أنظر الكتاب المُقدس (1كو9:4-11)..

(6) قبول تحذيره لهم كأب (1كو14:4-21)، حيث قال: ماذا تريدون؟ أبعصا آتي إليكم أم بالمحبة بروح الوداعة ؟!
هذه الرسالة هي أروع وأجمل مقال عن مفهوم الخدمة والبذل، والحُب الرعوي، فكل عبارة تُعتبر قانوناً عملياً للخادم الحقيقي، وكأن الله سمح بالهجوم على رسولية القديس بولس، لكي يكشف عما في أعماقه من حب تجاه شعبه، وما في ذهنه من مفاهيم إيمانية صادقة نحو الرعاية، فشكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين، ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان والذي جعلنا كفاة لأن نكون خدام عهد جديد، أنظر الكتاب المُقدس في هذه الشواهد (2كو14:2؛ 6:3)..

إذ اشتدت الضيقات بالرسول، لكنها لم تحطمه بل أدرك بوضوح أن الله سمح بها حتى يكتشف ذراع الله العامل وسط الأتعاب والشدائد، وقد كُتبت الرسالة سنة 57 ميلادية من مكدونية بعد الرسالة الأولى بأشهرٍ قليلةٍ..   

غاية وهدف الرسالة ومحتوياتها..
جاء بعض اليهود من أورشليم يُشكّكون المؤمنين في رسوليته، ويعلنون أنه عنيف في رسائله، وأنكروا على بولس رسوليته، وكان من اللازم أن يبرهن لهم عن صدق رسوليته، ويؤكد حبه لشعبه واستعداده أن يكون لهم عبداً، لينعموا هم بحرية مجد أولاد الله (رو21:8؛ 5:4)، وأن ينفق ويُنفق لأجلهم مع تأكده أنه كلما أحبهم أكثر أحبوه أقل، لقد أعلن لهم أنه يلتهب في أعماق قلبه عندما يتعثر أحدهم، ويشعر بالضعف عندما يضعف أحدهم فيقول: مَن يضعف وأنا لا أضعف؟! مَن يعثر وأنا لا ألتهب؟!

أنظر (2كو29:11؛ 16:7؛ 15:12)، كما علم الرسول أن الرسالة الأولى قد أثمرت بالتوبة الصادقة، وأن الأخطاء تصححّت تدريجياً وأمور الكنيسة بخصوص التدبير الكنسي قد وضعت في نصابها، فأرسل إليهم يؤكد لهم فرحه بتوبتهم، ويُشجعهم للسلوك في هذا الطريق، واتساع قلبه بالحب لهم أما الذي جعله يتعجل في الكتابة، فهو ذاك الشخص الذي طلب عزله بسبب الزنا، وإذ قدم توبة وحزن شديد، خشي عليه لئلا يسقط في اليأس، فبعث إليهم فوراً لكي يقبلوه ويُظهروا له كُل محبة (2كو5:2)..

جاءت هذه الرسالة أشبه برسالة شكر لاهتمامهم بالقديسين المضطهدين في أورشليم، ومن أجل ما أظهروه من لطف تجاه تيطس عند زيارته لهم أما مواضيع الرسالتين الأولى والثانية تكاد تكون متشابهة، وهي المواهب الروحية، والقيامة من الأموات، والعشاء الرباني، والعطاء بسخاء ومحبة وقد حذرهم من أصحاب البدع والهرطقات والانشقاقات، كما جاءت الرسالة تفيض بالتعزيات الإلهية التي يهبها الله لمؤمنيه وسط الآلام، واضطر أن يقارن بين العهدين الجديد والقديم، ليرد على القلة من المسيحيين الذين من أصل يهودي ويُصرّوا على اتهام الرسول بأنه مرتد ومقاوم الناموس..

 وتضمن الرسالة على النقاط الآتية وهي:
(1) مقدمة في المحبة ص1 ..     (2) مفهوم الخدمة ص2-5 ..
(3) عمله الرسولي ص7،6 ..    (4) خدمة القديسين ص9،8 ..
(5) دفاعه عن نفسه ص10-12  (6) الختـــــام ص13 ..