بقلم الأب يسطس الأورشليمى
الموت عند أهل العالم كما  صُوّره أحدهُم: المُوت برجُل شُجاع بملابس سُوداء، يحجب عينيه بعُصابة، ولا ينظر إلى أحد، وفي يده قوساً، وفي اليد الأخرى منجلاً، وسدُوا أذنيه بالرصاص حتى لا يسمع، وتحت قدميه أجنحة، وهُو بلا قلب، أو أي عاطفة، مُتسلط جبار، ومُسيطر على الجميع ولا يهاب شيء.. 

يأتي بالأحزان لكُل بيت يدخله، ولا ينظر إلى غني أو فقير، ولا يسمع بكاء الباكين، هُو مُر المذاق يُصيب القريب بالمنجل الذي في يده، والبعيد بالقُوس الذي في اليد الأخرى، هُو قاسي لا رحمة ولا شفقة عنده، لا يرحم شيخاً ولا يحن ويعطف على فتى أو طفل..

أما الموت في المسيحية فيقُول داود النبيّ وملك إسرائيل: ارجعي يا نفسي إلى راحتك لأن الرّب قد أحسن إليكِ، لأنك أنقذت نفسي من المُوت وعيني من الدمعة ورجليّ من الزّلق، أسلُك قُدام الرّب في أرض الأحياء (مز7:116-9)..

أننا نرى أن جميع الأنبياء يعلنُوا أنهُم غرباء على الأرضِ، فداود يقُول: غريب أنا في الأرضِ، لا تُخف عنيّ وصاياك، وعزيز في عيني الرّب مُوت أتقيائه (مز15:116؛ 19:119)، والغريب دائماً في اشتياق إلى الرجُوع والعُودة إلى وطنه، حيثُ يتقابل مع أحباءه وأعزاءه..

العالم كله أحزان، وضيقات، وأتعاب، ولا تُوجد راحة حقيقية إلاّ في الله لذلك يقُول: تعالوا إليّ يا جميع المُتعبين والثّقيلي الأحمال، وأنا أريحكُم احملُوا نيري عليكُم وتعلّمُوا منيّ، لأني وديعٌ ومتُواضعُ القلب، فتجدُوا راحة لنُفوسكُم، لأن نيري هيّنٌ وحملي خفيفٌ (مت28:11-30)..

كان داود أعظم ملُوك إسرائيل، ناجحاً في حياته الرُوحية والعالمية، ومع ذلك يطلب الرجُوع والعُودة إلى مُوضع راحته، لأنك تُراب وإلى تُراب تعُود، وهنا يستريح الإنسان التائب المُشتاق إلى الله، وقد شبه العالم بمياه البحر المالحة، فالبطن تمتليء بالمياه لكن الإنسان لا يرتُوي ويُشبه إرميا النبيّ الله بالمياه العذبة، فيقُول: تركُوني أنا ينبُوع المياه الحيّة لينقُرُوا لأنفُسهم أبآراً أبآراً مُشقّقة لا تضبُط ماء (إر13:2)، وفي الرجُوع والانتقال من هذا العالم يتخلّص الإنسان من ثلاثة أشياء وهي:

أولاً: خلّص نفسي من المّوت..
ثانياً: خلّص عينيّ من الدمُوع..
ثالثاً: خلّص رجليّ من الزلّل..   

حينما يدخل الإنسان في العالم يدخله المُوت، لأنه حُكم عليه، والإنسان مُولُود الخطية، وأجرة الخطية هي: مُوت، فالمُوت ناقُوس، وجرس يعمل فينا ونحنُ لا ندري، وسيأتي يُوماً ويتغلّب علينا..

    قال أحدهم: حينما يُولد الإنسان يدخله المُوت، وحينما ينتقل من العالم يدخل في الحياة الأبدية، وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقيّ.. 
أحدهُم كان إنساناً حكيماً أصبح على شفى المُوت، ونُقل إلى المستشفى في حالة خطرة، واخذ الرّب بيده وتم الشفاء وخرج منها، فذهب إليه أحد أصدقاءه ليهنئه بسرعة الشفاء، فنظر إليه والدمُوع في عينيه، وقال له: مبرُوك على قضية وقد تأجلت قليلاً، مبرُوك إذا ما تخلّصت من المُوت وذهبت إلى الرّب يسُوع، حيثُ الحياة الأبدية (يو3:17)..  

لذلك بالمُوت داس المُوت، ووضع نفسه، وأطاع حتى المُوت، مُوت الصليب (في7:2)، فإذا كان الرّب يسوع رفع عنا سلطان مُوت الخطية  لكنه لم يرفع عنا الانتقال من هذا العالم، بل تحُوّل المُوت إلى وسيلة مواصلات، وجسر للعبُور من الحياة الفانية إلى الحياة الباقية..

فما أشهى وأطيب الرجُوع والتخلّص من الخيمة التي يئن فيها الإنسان ويتألم، لنتطلع ونتأمل في المدينة التي صانعُها وبارئُها الله (عب10:11) خلّص نفسي من المُوت، وعيني من الدمُوع، والعين إشارة إلى المعرفة والمعرفة تدخل إلى الإنسان عن طريق الحُواس الخمس.. 

والدمُوع إشارة إلى الحزن، ومعرفة العالم حزن وألم ودمُوع، وأكثر إنسان أخذ معرفة هُو سليمان الحكيم الذي قال: لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم والذي يزيد علماً يزيد حُزناً (جا18:1)، لأننا بالإيمان نسلُك لا بالعيان، ألم يُجهّل الله حكمة هذا العالم؟ لقد أختار جُهّال العالم ليُخزي الحُكماء، أنظر وتأمل في الكتاب المُقدس (1كو27:1؛ 2كو7:5)..

العقل يحتار في الرّب ويتشكّك، والذين بحثُوا عليه بالعقل لم يصلُوا إلى شيء، لأن العقل محدُود مثل الحفرة، فلا يستطيع أن يحتُوي ويدرك الله غير المحدُود، لذلك يقُول: يا ابني أعطني قلبك (أم26:23)..

قال القديس أغسطينوس: إن العقل هُو الركُوبة التي تصل بك إلى باب السلطان، ولكنه لا يُدخلك إلى القصر، لكن الذي يُدخلك هُو الإيمان..

هذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفُوك أنت الإله الحقيقيّ وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته، هذه هي المعرفة المُستنيرة، حيث لا يكُون هُناك حُزن ولا صُراخ، ولا وجع، ولا مُوت، أنظر (يو3:17؛ رؤ4:21)، لأن الإنسان مُعرّض للخطية طالما هُو في الجسد، حتى إذا كانت حياته يُوماً واحداً على الأرض، والصّدّيق يسقُط سبع مرّات ويقُوم (أم16:24)..

ويقُول الرسُول: لي اشتهاء أن أنطلق وأكُون مع المسيح، ذاك أفضل جداً، لأن لي الحياة هي المسيح والمُوت هُو ربح (في21:1)..  

فالانتقال هُو كُوبري، وجسر ذهبي يعبر به الإنسان من عالم الفناء إلى عالم البقاء، فعندما نعيش في الجسد نرى الخليقة الجميلة التي خلقها الله  لكن حينما نخلع الجسد نرى الله الذي هُو أبرع جمالاً من بني البشر، لذلك نقُول: ارجعي يا نفسي إلى راحتكِ، ولا نحزن على المُنتقلين الذين تخلّصُوا من الجسد، وذهبُوا إلى مُوطن الراحة الأبدية..

البيض أنكسر وطارت العصافير، وهي فرحة تُغني مُتهلّلة بين غصُون الأشجار ترف بجناحيها، ونحنُ نذكر المنتقلين، ونقُول لهُم: لقد خرجتُم من الجسد الفاسد الذي أنكسرّ، لكنكُم تطيرُون الآن في الفردُوس مع صفُوف السمائيين تسبحُون وتتهللُون بالرّب يسوع، وكما يقُول إشعياء النبيّ وهُو يتأمل في النفُوس الصاعدة، المُنطلقة نحُو السماء: مَن هُؤلاء الطّائرُون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها؟ والمُؤمن يُشبه بالسحاب في:

أولاً: السحابة بيضــاء..
ثانياً: السحابة خــفيفة..
ثالثاً: السحابة في العلاء..

فالمُؤمن يُشبه بالسّحابة لأنها بيضاء رمز النقاء مثل آدم قبل السقُوط وبسبب الإنسان المُرتبط بالعالم المُوضُوع في الشرّير، والمجتمع وسلُوكياته قد تدنس، وتحُوّلت العين البسيطة إلى شرّيرة (مت22:6)، لذلك يقُول داود: اغسلني كثيراً من إثمي، ومن خطّيتي طهّرني، قلباً نقياً اخلُق فيّ يا الله ورُوحاً مُستقيماً جدّد في داخلي، وهذا النقاء لا يأتي إلاّ بعمل المُخلّص في حياتنا، فالبُسُوا الرّب يسوع المسيح، ولا تصنعُوا تدبيراً للجسد لأجل الشهُوات، والمسيح جاء لكي يطلُب ويُخلّص ما قد هلك، ويُطهرنا بدمه من كُل خطية، وهُو كفّارة لخطايانا، لأن بدُون سفك دم لا تحصُل مغفرة، أنظر الكتاب المُقدس (لو10:19؛ عب22:9؛ 1يو7:1؛ 2:2)..

والسيد المسيح هُو كلمة الله، وآدم سقط حينما كسر كلمة الله، فدخله المُوت، لكن المسيح حيّ لم يستطع المُوت أن يتغلب عليه، لذلك يقُول في انتصار: أين شوكتُكَ يا مُوت؟ أين غلبتُكِ يا هاوية؟! (1كو55:15)، والذي يسلك في صفات المسيح، يكُون كالسحابة البيضاء في النقاء والصفاء بتحمله للتجارب، لأن شمس التجارب قد لُوّحتني (نش6:1)..