بقلم الأب يسطس الأورشليمى
لعبت روما واليهودية والثقافة الهيلينية دوراً مؤثراً في نشأة الكنيسة فقد كانت روما مركز العالم وعاصمة الإمبراطورية الرومانية التي وحدت العالم ووحدت هويته وطرقه ومواصلاته وأحكام قضائه وجيشه ومركزه في كل البلاد وثقافته ومدينته وهكذا انتشر الإنجيل في كل أنحاء العالم.
وبوحدة العالم عم السلام الرومانى وأنبثقت لأول مرة في أرجاء المسكونة الأخوة البشرية، وهكذا حققت حلم الفلاسفة أن يصير البشر مجمعا واحداً مواطنة مفتوحة للجميع، وكانت روما قلب هذه الإمبراطورية الجاذبه ليهرع إليها العلماء والفلاسفة ورجال الحكم والقضاء وطالبو الصيت والغنى والمال والتجارة، وقبضت روما بيد من حديد على كل العالم تحركه كما تشاء وجيوشها تجوب كل الأنحاء تعين الملوك والولاة والحكام والقضاة وتحكم بقوة القانون الرومانى الذي لا يزال يعيش في معظم قوانين العالم حتى اليوم وأحتفظت روما بحكومتها ومحاكمها لتكون الملجأ الأخير لأي إنسان مظلوم مهما كان وضعه (إلى قيصر أنا رافع دعواى)، وهكذا صارت روما سيدة العالم المحبوبة المرهوبة لا بالقسر بل بالحق والعدل، واستخدمت روما هذا الحق الإلهي لتوجه العالم تحت خضوع قضيب ملكه حتى جن بعض الأباطرة وظن نفسه بالفعل إلهاً ( كاليجولا ونيرون ) وكانت المواطنة الرومانية أيام مولد الكنيسة مصدرا للأمن وتأميناً للحرية والحق وفخر يعتز به حتى ولو اشتريت بالمال.
وكانت الإمبراطورية على هيئة مقاطعات أو كما نسميه ألان ممالك، وكل مقاطعة لها حاكم رومانى يختلف اسمه ورتبتة بإختلاف الحاكم.
وكان للدولة الرومانية جيشا قويا يحميها وهو أساس القوة الرومانية الضاربة والمؤمنة للحدود والطرق والمواصلات، وكان الجيش يتكون من فيالق، والفيلق يضُم عشرة كتائب وكل كتيبة تضم المئات، ويقود كل منها قائد مائة، وأما الأمير فهو قائد الألف.
وفي أيام السلم كان الجيش يقف على حدود الإمبراطورية مع إستثناء الولايات المشاغبة كاليهودية، فكان يرابط فيها حاميات لها تركيبها السريع الحركة ففي قيصرية كان يرابط خمس كتائب وفي أورشليم كتيبة واحدة في قلعة أنطونيا لتراقب كل منطقة الهيكل من أعلى، وكانت توجد كتائب فوق العادة كالمسماة بالإيطالية أو الاغسطية وقد لعب الجيش دوراً هاماً في تمهيد الطرق بكل همة وعناية لتخترق الجبال والوديان والصحارى والأنهار وذلك في كل أنحاء العالم وتصب كل الطرق في روما وكل محطة لها حراساتها المدربة فأصبحت التنقلات سهلة أمنه سريعة وكانت روما قد أضطلعت بتمهيد الطرق لأجل الكارزين وحمايتهم في أسفارهم بالليل والنهار فأخذت نصيب المؤسس الأول لبناء الكنيسة على الصخر، وبالتالى كان الرسل والمبشرين أمثال بولس الرسول يسيرون من مدينة إلى أخرى لا يحملون زاداً ولا سلاحاً ويعبرون القارات بلا بطاقة هوية ولا تفتيش على الحدود ولا إذن بالعبور ولا فيزه إقامة ولا ضمان ولا سؤال، وليس ذلك فقط بل ويرسل الرسائل فتصل في حينها وتجيئه أخبار الكنائس، وكأنه على إتصال لاسلكي بها بل أن روما قد حمت بولس الرسول نفسه من متعصبي يهود أمته وأنقذته من أيديهم وحافظت على سلامة نفسه وجسده وكأنها أمَّنت لنا الإنجيل وحفظته من براثن اليهودية، ولما لفظته أمته ويهوديته فتحت له روما أبوابها وقلبها وعقلها، وإلى جانب هؤلاء كان يوجد الجاليات والتي تعتبر بدورها أقوى وأهم من الجيش نفسه وعساكرها محنكون ومدربون تدريبا عاليا لفرض القوانين الرومانية والأنظمة لأجل تطويع الشعوب الغريبة للأنظمة الرومانية ووسط هؤلاء تدرب القديس بولس الرسول في الخدمة تدريباً رائعاً إعداداً لخدمته في روما نفسها.
أما اليهودية فقد شكل اليهود بها أمة متحدة تبادلت الكراهية مع كل الرومانيين واليونانيين، وكانت هذه من العقبات الرديئة التي كلفت الكنيسة الأولى كثيراً, وكانت أورشليم لليهود هي كروما بالنسبة للرومانيين وكان اليهود في زمن مولد الكنيسة مبددين على وجه الأرض وكانوا بلا إستثناء أغنياء وبسبب غناهم وتخابرهم ومكائدهم كانوا مكروهيين ومع ذلك كانوا ذوي تأثير, وكانوا رغما عنهم أحد العناصر التي تتكون منها الإمبراطورية الرومانية وكانوا وهم في أقصى الأرض يرسلون الي أورشليم الجزية مع تقدمات لخدمة الهيكل ويتقاطرون عليها في أعيادها الثلاثة وبالأكثر الفصح، وكان على اليهودى مهما كان أن يحج إليها ولو مرة واحدة في عمره، وكانت لهفة اليهود للعودة إلى أورشليم شيئا يفوق العقل وكان يهود الشتات أكثر تعصباً من يهود أورشليم ولم تكن نفوس اليهود راضية أبداً بولاية الرومان عليهم وكان إعتقادهم أنه الله لابد وأن يرسل المسيا لينقذهم من هذه العبودية ويضع رقاب الرومانيين تحت أقدامهم، وكانت الثورة قد دخلت في قانون إيمانهم يغذيها الغيورين بتعصبهم الشديد حتى أندلعت الثورة سنة 66م، وكان ذلك لخرابهم وتحطيم أمتهم وحرق هيكلهم بل ودكه دكاً حتى التراب وإجلائهم عن بلادهم وكان هناك تحفز لدى الشعب اليهودى لرجم الجند الرومان أن أتت لهم الفرصة، ولكن كانت هذه الثورات تقابل من الرومان بقسوه بالغة فقتلوا القائمين عليها وشتتوهم، ومع ذلك لم تكن اليهودية كلها مساوئ بل ظهر من يهود الشتات إستعداداً كبيراً لقبول رسل الإنجيل، وهكذا أخذت المسيحية بدايتها القوية، وكما ظهر تعاطف بين اليهودى وأخيه اليهودى تعدى هذا العطف والمحبة بين المسيحي وكل العالم وزاد على اليهودية عنصر البذل لا بالمال وهذا أصعب ما يكون عند اليهودى بل والحياة شهادة للإيمان.
وكانت الثقافة اليونانية قد انتشرت في العالم ولم يكن تأثيرها عظيما على مستوى الأدب والثقافة الرفيعة والشعر والفلسفة واللغة والتي غزوا بها العالم ومهدوا للفكر المسيحى تمهيدا يكاد يكون شاملا فقد وضع الإنجيل بلغتهم وصارت لغة الإيمان المسيحى في كل الأرجاء، وكان الشرق قد اكتسب هذه الثقافة على يد الاسكندر المقدوني (الأكبر) فإذا قيل عن إنسان أنه يعرف اليونانية فيعنى ذلك أنه مثقف من الدرجة الأولى.
وقد نتج عن هذا أن قسمت اللغة اليونانية العالم قسمين قسم متحضر متمدين (والمتدين بعد ذلك) والقسم الهمجي فإما يوناني أو بربري وقللت الهيلينية من تعصب اليهود فهيئتهم بذلك لقبول المسيحية المشروحة شرحاً بديعاً باليونانية ولكن ظلت اليهودية بجذورها السامية في معاداة الأممية حتى بعد أن تنصر الاثنان وكان هذا في باكورة ميلاد الكنيسة وبعد الخمسين بقليل وعلى أيدي اليونانيين المسيحيين بدأت حركة إنطلاق التبشير بين الأمم بصورة سريعة قوية وقام منهم المبشرون الأوائل وكانوا جميعا مملوءين بالروح القدس: استفانوس، فيلبس، القبارصة، القيروانيين، كما ارتفعت روما بالعالم إجتماعيا وسياسيا وقانونيًا، هكذا أرتفعت الهيلينية بالعالم فى الثقافة واللغة والفن والفلسفة، ثم عادت فإرتفعت بالمسيحية لغة وفهماً وبحثاً ودراسة وباللغة اليونانية أستغنت الكنيسة عن التكلم بالألسن إذ خلقت لتكون عونا للاهوت المسيحي إذ كانت هي لغة العالم بدوله وبلاده وأجناسه وشيعه وأفراده وبالتالي فهماً مشتركاً ولذلك نجد بولس الرسول يكلم روما باللغة اليونانية والتى كلم بها افسس وكل المناطق التي بشر فيها تقريبا، وبذلك ضمت المسيحية عقول الفلاسفة (اليونانيين) الجبارة أخرجتهم من الظلمة إلى النور تخدم كلمة الله الحية بعد أن كانت تخدم الألهة الكاذبة وهكذا بزغت المسيحية وولدت الكنيسة.





