بقلم/ نادر شكري
في مناسبة تحمل الكثير من الفخر والامتنان، تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بذكريتين غاليتين على قلوب أبنائها: عيد ميلاد قداسة البابا تواضروس الثاني، وتذكار القرعة الهيكلية وتجليسه على الكرسي المرقسي ليصبح البابا رقم 118 في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
تأتي هذه المناسبة لتؤكد المسيرة المباركة التي يقودها قداسة البابا، إذ نجح منذ بداية خدمته في أن يجعل الكنيسة القبطية أكثر انفتاحًا، وتنظيمًا، وتأثيرًا، وأن ينقلها من الإطار المحلي إلى الحضور العالمي بروح الحكمة والرؤية الواضحة.
• إدارة حديثة وبناء مؤسسي متطور
منذ تجليسه عام 2012، عمل قداسة البابا تواضروس الثاني على تطوير الهيكل المؤسسي للكنيسة وإرساء قواعد الإدارة الحديثة، فأسس العديد من المكاتب والمجالس المتخصصة التي عززت كفاءة الخدمة والعمل الكنسي.
ومن أبرز إنجازاته في هذا الإطار تدشين المكتب البابوي للمشروعات الذي يتولى متابعة وتنظيم المبادرات التنموية والخدمية على مستوى الإيبارشيات، إضافة إلى تطوير مركز الدراسات القبطية بالمقر البابوي ليصبح مركزًا بحثيًا وثقافيًا عالميًا يعزز الهوية القبطية ويمد جسور التعاون الأكاديمي مع مؤسسات علمية دولية، وتطوير مركز لوجوس ليصبح منارة عالمية بما يضمه من مكتبة عريقة، وأيضا هيئة الأوقاف القبطية والمجالس الاكليريكية وتجديد الدماء من أجل التطوير.
كما أطلق قداسته منتديات الشباب القبطية العالمية التي تهدف إلى ربط أبناء الكنيسة في الخارج بوطنهم الأم مصر، عبر لقاءات مباشرة تُقام دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، مما رسّخ الانتماء الوطني والروحي للأجيال الجديدة في المهجر، لتتحول الكنيسة لجسر يربط بين الداخل والخارج في إطار الحفاظ على هوية الكنيسة القبطية وتاريخها ودورها وأيضا تعزيز الدور الوطني والانتماء للأجيال الجديدة
ولطالما أولى قداسته اهتماما كبيرا بالخدمة وبفصول التربية الكنسية، وطالب الكهنة والأساقفة بأن يضعوا فصول إعداد الخدام من ضمن أولوياتهم ، موضحا لهم أن الخدمة هي التي سوف تصنع نهضة جديدة داخل الكنائس سواء بمصر أو ببلاد المهجر، كذلك من خلال إنشاء معهد لإعداد خدام كنائس بالمهجر لإطلاعهم على الثقافات المختلفة في الدول الأوروبية وأمريكا وكندا، وفتح قنوات للحوار مع الشباب، ودعوة المسيحيين إلى الاندماج في المجتمع من خلال التعليم ووسائل الإعلام.
كذلك تم تأسيس مشروع 1000 معلم كنسى بغرض تطوير التعليم الكنسى وشعاره " جدد ايماننا كالقديم " .
• سفير لمصر في الداخل والخارج
عرف قداسة البابا تواضروس كأحد أبرز رموز الحكمة على الساحة الدولية، إذ تحوّلت زياراته الخارجية إلى منصات دبلوماسية روحية عرّفت العالم بعراقة الكنيسة القبطية وعمق الحضارة المصرية، وتحول استقبال قداسته الى احتفالات عالمية لا تقل عن استقبال ملوك ورؤساء الدول، فكانت زياراته للخارج بمثابة حدث تاريخى مثل أوروبا وأمريكا وشرق اسيا.
وفي كل لقاء مع وفود أجنبية بالمقر البابوي أو لقاءات الخارج، كان قداسته يتحدث عن مصر بلسان الأب المحب والسفير المخلص، مسوّقًا لصورتها الحقيقية كأرضٍ للتاريخ والتسامح والإنسانية، وأيضا تعريفه بالكنيسة القبطية وتاريخها، وشهدائها، ويبرز هنا زيارته للفاتيكان وتسليمه لرفات شهداء ليبيا، ووضع الكنيسة الكاثوليكية لسيرتهم في السنكسار، فكان أكبر تقدير واعتراف لكنيستنا القبطية ودماء شهدائها.
كما لا ننسي مواقفه الوطنية المشهودة في اللحظات الحرجة من تاريخ البلاد، أبرزها دعمه الصادق للدولة المصرية في ثورة 30 يونيو، وموقفه الوطني العظيم عقب أحداث فض اعتصام رابعة رغم ما تعرّضت له الكنائس من اعتداءات”، وهو موقف سُجل في وجدان كل المصريين.
• الكنيسة من المحلية إلى العالمية
في عهد قداسة البابا، توسعت الكنيسة القبطية لتخدم أبناءها في جميع قارات العالم، من خلال إنشاء إيبارشيات جديدة، وإرسال كهنة وخدام مؤهلين، مما جعل الكنيسة القبطية اليوم كنيسة عالمية تحمل رسالتها في المحبة والحق إلى كل الأمم.
وتُوّج هذا الدور العالمي مؤخرًا باستضافة مؤتمر مجلس الكنائس العالمي في مركز لوجوس بدير الأنبا بيشوي، وهو الحدث الأول من نوعه الذي يُعقد في الشرق الأوسط، بحضور أكثر من 500 شخصية دينية من مختلف دول العالم.
وقد لاقى المؤتمر إشادة دولية واسعة، واعتُبر دليلًا على المكانة المرموقة التي وصلت إليها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحت قيادة قداسة البابا تواضروس الثاني.
• سنين عديدة وأزمنة مجيدة
في هذه المناسبة المباركة، نرفع صلواتنا شاكرين الله الذي وهبنا راعيًا أمينًا وقائدًا حكيمًا، متمنين لقداسة البابا سنين عديدة وأزمنة مجيدة، مملوءة بالصحة والسلام والثمار الروحية.
هذه الكلمات القليلة مجرد تعبير بسيط عن محبة ومكانة قداسة البابا، ولكن إذا تحدثنا عنه فلن تكفي مئات المقالات للكتابة عن قداسته، فهو لا ينام ولا يتوقف عن عمله وخدمته ليلًا ونهارًا، حتى أننا نتعجب من كيفية قيام قداسته بكل هذه الأنشطة دون راحة، لاسيما في زياراته الرعوية سواء داخل مصر أو خارجها.
ومؤخرًا، خلال زيارته إلى أسيوط، رأينا نموذجًا فريدًا لعطائه، فقد كان قداسته يفتقد ويعظ في أكثر من موقع وقرية وكنيسة في اليوم الواحد، حتى إننا لم نصدق أنه زار أربع قرى في البداري وساحل سليم خلال ساعات الليل، حيث التقى بشعبه وتحدث إليهم وألقى عظاته في وقتٍ لا يكفي عادةً ليومين، لكن في سبع ساعات فقط، كان قداسة البابا يزور ويفتقد أبناءه بكل فرحٍ رغم التعب الجسدي والإرهاق، وهذا هو قداسة البابا تواضروس الثاني، حينما يذهب إلى أي مكان، يسابق الوقت ليخدم أكبر عددٍ ممكن من أبنائه.
حتى في رحلاته الخارجية، كثيرًا ما نتعجب كيف يتمكن من عقد كل هذه اللقاءات والزيارات في يومٍ واحد، رغم بُعد المسافات بين كل لقاء وآخر، لكنه اعتاد أن يضع الكنيسة والوطن في قلبه، ويحمل حب أبنائه في داخله لتكون الطاقة التي تدفعه للعمل والخدمة بلا توقف.
فالحديث عن قداسته لا ينتهي، ولكن هذه مجرد رسالة محبة أو "تلغراف سريع" لنتذكر أن الكنيسة تمتلك بطريركًا فريدًا، يواجه التحديات وربما محاولات خبيثة أحيانًا لعرقلة خدمته، لكنه يسير حاملاً كنيسته ورعيته من أجل خدمتها مهما كانت الصعوبات، ليثبت يومًا بعد يوم أنه حقًا اختيارٌ إلهيٌّ مباركٌ لكنيستنا في هذه الفترة التي تحتاج إلى أبٍ وراعٍ حكيم.
فقد أثبتت السنوات الماضية أن قداسة البابا تواضروس الثاني ليس فقط بطريركًا للكنيسة، بل هو رمز وطني وروحي يكرّس حياته من أجل الكنيسة ومصر معًا، جامعًا بين الإيمان والعلم، والروح والعقل، ومحبة الوطن وخدمة الإنسان.





