تَجَلِّي الكَلِمَةِ وَالصُّورَةِ فِي نُورِ الكِتَابِ وَالفَلْسَفَةِ
بقلم أيمن فايز
الإيقونة ليست ما تراه العين، بل ما يراه القلب أولًا، وما يكتشفه الروح قبل أن يُدركه العقل. إنها مكان يلتقي فيه الحاضر مع الغائب، حيث يتجلّى ما لا يُرى، ويصبح الملموس شاهدًا على اللاملموس. من لحظة قول الله: «ليكن نور»، صار الضوء كلامًا، واللون دعوة، والمادة مرآةً للروح. في كل إيقونة، كل خط، كل لون، وكل تفصيل، توجد إشارة إلى الحضور الإلهي في الغياب، ونور يغمر الزمن والمكان دون أن يُحصى.
الإيقونة تحوّل الناظر إلى مشارك. العين التي تنظر لا تبقى متلقية؛ بل تصبح مستدعاة، مشاركة، مشهودة، كما لو أن النظر نفسه يُرى ويتحوّل إلى تجربة حية. كل لحظة من الرؤية تجربة وجودية: ما يُرى يُعيشه الرائي، وما يُختبر يظل حاضرًا بعد أن يترك العين. لا تقول الإيقونة: «هذا ما هو»، بل تهمس: «هنا يوجد من يراه من يفتح قلبه ويقبل النور».
تمامًا كما يكتب جاك دريدا (Jacques Derrida) في مقالته «La signature, événement de la lettre»، فإن التوقيع يؤكد الحضور بغياب صاحبه. نحن نوقّع لأننا لسنا هناك، والكتابة تعمل بغيابنا لتخلق معنىً جديدًا لكل قارئ في كل زمان. الإيقونة تفعل الشيء نفسه: هي حضور الغائب في المادة، وشهادة للروح التي تعيش ما لا يُرى، وتكرار للمعنى الذي يفتح كل مرة نافذة جديدة للرائي.
في فكر جان-لوك ماريون (Jean-Luc Marion)، كما في كتابه «Phénoménologie de la donation» (1997)، تتجلّى هذه الحقيقة بوضوح: الإيقونة ليست موضوعًا للرؤية فقط، بل حدث للرؤية نفسها. هي تجعل الرائي حاضرًا، مشاركًا في حضور الغائب، متفاعلًا مع كل لون وخط، مدركًا أن ما هو أبدي يمرّ بيننا ويختبرنا في كل لحظة.
الإيقونة تعلمنا أن نرى بلا سيطرة، أن نحيا ما لا يُقال، وأن نسمع ما لا يُنطق به. إنها جسر بين المرئي والمطلق، بين الإنسان والله، بين الزمن والسرمدية. النظر إليها فعل حي، والحضور معها تجربة روحية، والاكتشاف الذي تقدمه كل مرة يُعيد تشكيل الرائي نفسه.
الإيقونة ليست فنًا يُعجب به فقط، بل دعوة للروح، رسالة للحواس، تجربة وجودية حية. ما يغيب يحضر، وما يحضر يظل مشرقًا بالغيب. وفي هذا التوتر تتنفس الروح، كما يسكن الله في نور لا يُدنَى منه، لكنه يُنير كل من يقف أمامها، ليشهد حضور الغائب في كل ملمس لون وخط وكل لمحة من النور الأبدي.





