نيفين مسعد
تبدو مسرحية "أم كلثوم.. دايبين فى صوت الست" التى تُعرَض حاليًا على مسرح فندق موڤنبيك فى مدينة ٦ أكتوبر -ملائمة تمامًا للمزاج العام للمصريين فى هذه الأيام الخريفية الرائعة. مجموعة من الأنشطة المبدعة -فى القلب منها افتتاح المتحف المصرى الكبير وحفل جراند بول بقصر عابدين وقبلهما مسرحية "الملك لير" ومسرحية "أم كلثوم.. دايبين فى صوت الست"- أوجدَت حالة من التفاعل الشعبى الواسع مع الفن والثقافة والسياحة والجمال، وخلقَت نوعًا من الزهو الوطنى الذى لا تقدر عليه السياسة. من فرط الإبهار فى العرض المسرحى عن ثومة التى نذوب فى صوتها- تصوَرت فى لحظة معينة أنه سوف يخرج من الصمت المهيب فى قاعة العرض صوت جهورى يهتف "عظمة على عظمة على عظمة يا ست". وأتصور أن الكل كان مثلى مهيأً تمامًا. فالعظمة هنا ليست فقط فى أن كل الذين وقفوا على خشبة المسرح هم من الشباب المدهش غناءً ورقصًا وتمثيلًا وحضورًا والذى يدخل التجربة لأول مرة ومع ذلك يبدع وهو سايب إيديه، ولا فى مجرد أن الإخراج والإضاءة وتصميم الملابس والرقصات أعادوا إلى الأذهان أوبريتات فريد الأطرش وسامية جمال أيام زمان. العظمة الحقيقية هنا هى فى هذا التناغم الكبير الذى وصل لنا كجمهور بين كل عناصر العمل. مدينون نحن لعائلة العدل التى تهدينا هذا التناغم لأنها كما قلت لدكتور محمد العدل هى نفسها عائلة متناغمة، يجرى فيها الفن مع الدم وتأخذ الفكرة من بابها وتواليها حتى ترى النور وترينا معها النور. التغيير بالفن ممكن، والعملة الفنية الجيدة قادرة على أن تحاصر العملات الفنية الرديئة.
• • •

أمسَك منتج المسرحية ومؤلفها دكتور مدحت العدل بحفنة من المشاعر الإنسانية وجعلها أساسًا لبنائه الدرامى. هذا الحب الآسر الذى ربط ثنائى أحمد رامى ومحمد القصبجى بكوكب الشرق- كان حاضرًا بقوة فى العرض. بدايةً من "لخبطة" مشاعر رامى إزاء صوت أم كلثوم أول مرة سمعها فيها، وحتى "لخبطة" مشاعره تجاهها وهى تقرّبه وتبعده، وتبعده وتقرّبه طوال الوقت. يفشل فيلمها "عايدة" فتغضب أم كلثوم على قصب ورامى وتقاطعهما ثم تصفو وتروق فيغفران لها ويعودان، ويقول نزار قبانى عن حق "ما أحلى الرجوع إليه". وتمازح أم كلثوم رامى لكونه مازال يلقّب بشاعر الشباب رغم أن عمره تجاوز الستين، فيُحرَج ويعود مكسور الخاطر إلى بيته، حتى إذا أرسلَت أم كلثوم فى استدعائه لم يطق صبرًا على لقاء الصباح وهرول إلى بيتها فى انتظار بزوغ الفجر. وهكذا يتقلّب رامى ما بين"رقّ الحبيب" و"هجرتك"، ويتقلّب فى داخل الغنوة الواحدة ما بين "هجرتك يمكن انسى هواك واودع قلبك القاسي" وبين "لقيت روحى فى عزّ جفاك بافكّر فيك وانا ناسي". كلمات عبقرية لا تخطر إلا على قلب عاشق. أما هذا الحب المشترك من رامى وقصب لأم كلثوم فأمره عجب لكن لا ننسى جملة قصب مخاطبًا رامي: كلانا مبتلى يا شاعر. يُفاجأ قصب بكلام الست عن الجراحة الحساسة فى الغدة الدرقية- فينفعل عليها انفعال المحبّ ويقول "ده مش صوتك لوحدك ده صوتنا كلنا.. إنتى هنا مش صاحبة قرار". تبحث أم كلثوم عن دماء جديدة وألحان جديدة فإذا بقصب بعبقريته الموسيقية الفذّة- يقنع بأن يكون عضوًا فى فرقة الست يجلس وراءها قابضًا على ريشته وقلبه. وجوده فى حياة الست بدا وكأنه معطى وثابت وحقيقة لا تتغيّر، حتى إذا أتاها النبأ الحزين: القصبجى مات، صدح فى المسرح صوتها مسكونًا بالشجن: يا حبيبى كل شئ بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء. مات جزء فى داخل ثومة. وفى داخل دائرة أم كلثوم المغناطيسية وقف أيضًا رياض السنباطى، بخطوة أبعد وانضباط أكثر ومشاعر أهدأ -صحيح- لكنه كالعادة لا يبتعد إلا ليعود. يغضب على تغنيها بلحن عبد الوهاب "إنت عمري" لأنه لحن راقص، ويرفض تلحين قصيدة "الأطلال"، ثم يتراجع عن موقفه ويقول إنه حين يلّحن لها يشعر أنه الحلاّج- فتصدح أم كلثوم بأطلال إبراهيم ناجى وتفعل بنا ما فعلَت.
• • •

الخط الدرامى الثانى فى المسرحية، هو المرتبط بشعور الغيرة الذى يجسد دورة الحياة/النجوم ما بين أفول وبزوغ. هذه الفتاة القروية ذات العقال العربى الآتية من أعماق الريف ما كان لأحدٍ أن يتصور أنها قادرة على تهديد عرش سلطانة الطرب منيرة المهدية حتى لتبتلعها أرض المسرح فى مشهد غاية فى التأثير. فى البدء راحت تكابر السلطانة وتهدد بإعادة بنت طماى الزهايرة من حيث أتت فتضحك منها: هاهاهاها، ثم لا تلبث أن تدرك أن هذه البنت الريفية إنما جاءت لتبقى وتستمر. وستلاحق هذه الهاهاها فى ما بعد تلميحات الصحافة عن الشعور بالغيرة الذى نشأ لدى أم كلثوم- وقد صارت كوكب الشرق -تجاه محمد عبد الوهاب- الذى صار موسيقار الأجيال. غيرة؟ هاهاها.. هكذا ستسخر إذن أم كلثوم من منافسة عبد الوهاب لها، وفى خلفية المشهد تعلو أغنية يا صباح الخير ياللى معانا مقابل قصيدة جفنه علّم الغزَل، وترد أغنية يا ليلة العيد آنستينا على أغنية يا وابور قول لى رايح على فين. وهنا أفتح قوسين لأقول إنه مع روعة العمل ككل، إلا أننى أسجّل إعجابًا خاصًا بثلاث لوحات/ديالوجات بالذات. اثنتان من اللوحات ترتبطان بالتنافس فى الغناء بين أسماء الجمل (أم كلثوم) وليديا لوتشيانو (منيرة المهدية)، وبين أسماء الجمل وأحمد الحجار (محمد عبد الوهاب)، فهذا التداخل بين الأغانى والمشاعر والأصوات والمجموعات والأضواء، وهذا التبديل العفريت لملابس ريم العدل على المسرح لا ندرى كيف- كان مصدرًا لمتعةٍ فنيةٍ صافيةٍ. أما اللوحة/الديالوج الثالث المبهر فكان بمناسبة التصارع بين مشاعر الإحباط والأمل فى نفس أم كلثوم بعد أزمتها الصحية. يظهر عمر الخيام محاطًا بمجموعة من الدراويش وفى الأفق يوجد مَن يصدح بكلماته "عاشِر من الناس كبار العقول.. وجانِب الجهّالَ أهلَ الفضول، واشرب نقيع السم من عاقل.. واسكب على الأرض دواء الجهول".. وكأن تلك الكلمات الحكيمة بمثابة البوصلة التى أشارت على الست بخطوتها التالية فتواصل الغناء وتذهب للرباعيات. ومثل هذا التداخل بين التاريخ والواقع، وبين الفلسفة والتصوّف، وبين الحقيقة والوهم صنع طبقات من الرقى الفنى فوق طبقات .
• • •

إن الإتيان بجديد حول شخصية مازالت ملء السمع والبصر رغم غيابها، وكُتب عنها الكثير ومازال يُكتَب، وصُوّرت حياتها ومازالت تصوّر، كان يعّد تحديًا بالتأكيد لمؤلّف مسرحية "أم كلثوم.. دايبين فى صوت الست". لكن مدحت العدل أثبت أن الإبداع الحقيقى مثله مثل بصمة اليد لا يتكرر، فإذا بتناوله لما هو معروف عن الست يأتى بشكلٍ مبتكرٍ تمامًا. ولو كان لى كمشاهدة أن أتمنى أمنية- فهى لو كان امتّد العمل لفصل ثالث تتسع فيه المساحة أكثر لعلاقة أم كلثوم بعبد الناصر، فهذه قماشة يمكن أن تُنسج منها ثياب وحكايات وتفاصيل كثيرة.
نقلا عن الشروق