سمير مرقص
(١) «إطلالة على الخريطة الفكرية والسياسية الأمريكية»
تشهد الولايات المتحدة الأمريكية حيوية سياسية لافتة. تتمثل هذه الحيوية فى الحركات اليمينية (المحافظة) واليسارية، على السواء، الناشطة فى الفضاء السياسى الأمريكى بعيدا عن الأحزاب التاريخية الأمريكية: الديمقراطى والجمهورى. تسجل هذه الحيوية كيف طرأ تحول نوعى على الخريطة الفكرية والسياسية التاريخية الأمريكية التى كانت تتراوح تاريخيا بين اليمينيين الكلاسيكيين والليبراليين. بالنسبة لليمين المحافظ الجديد ـ المتشدد سياسيا ــ (راجع دراستنا المبكرة حول المحافظين الجدد واليمين الديني) فلقد بدأ ظهوره اللافت إبان فترتى رئاسة ريجان (١٩٨٠ ــ ١٩٨٨) وإن كان ارهاصاته بدأت مع حملة رجل الأعمال والجنرال السيناتور الجمهورى بارى جولدووتر (١٩٠٩ ــ ١٩٩٨) للحصول على ثقة حزبه للترشح للرئاسة فى العام ١٩٦٤ ــ والذى كان يعد آنذاك من القيادات الجمهورية الشابة ــ وتعده الأدبيات المؤسس الحقيقى لتيار اليمين السياسى المحافظ/ المتشدد. ومع نهاية التسعينيات برز اليمين الدينى والذى مثل قاعدة انتخابية فاعلة للرئيس بوش الابن واستطاع أن يدفع به رئيسا لمدتين (٢٠٠٠ ــ ٢٠٠٨). أما اليسار الجديد فلقد تقدم المشهد السياسى الأمريكى عقب أزمة ٢٠٠٨ الاقتصادية التى تسببت فى تداعيات كارثية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية أصابت جوهر العقد الاجتماعى التاريخى للولايات المتحدة الأمريكية الذى تبلور حول حلم الرخاء الأمريكى للجميع فى الصميم. ما استنفر شباب الطبقة الوسطى الأمريكية فانطلق جانب منه فى الانخراط بما بات يعرف فى الأدبيات باليسار التقدمى الجديد (لمزيد من التفاصيل حول الخريطة الفكرية والسياسية الأمريكية يمكن مراجعة الطبعة الجديدة والمنقحة من الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة قيد النشر عن دار العين).

(٢) «اليسار التقدمى الجديد»
تبلور اليسار التقدمى الجديد New Progressive Left؛ كردة فعل لأزمة ٢٠٠٨ ويمكن تصنيفه إلى ثلاث اتجاهات وتجليات مختلفة: الأول: شخصيات فكرية وسياسية واقتصادية جددت الدينامية اليسارية عبر النقاشات الفكرية والسياسية والاقتصادية، والثانى: اليسار التنظيمى المؤسسى البرلمانى والمدنى، والثالث: اليسار الشبابى الشبكى. ومن أهم الشخصيات اليسارية التى صارت ملهمة لها التيار السيناتور الأمريكى «بيرنى ساندرز» (٨٥ عاما) الذى دأب على مدى العقد الأخير على دق ناقوس الخطر إلى ما آل إليه المجتمع الأمريكى من انقسام طبقى وإثنى وجيلى. وقد بلور أفكار التى ألهمت كثير من الشباب داخل الحزب الديمقراطى وخارجه ودفعتهم إلى الانخراط- سواء داخل الحزب أو خارجه- فى تنظيم أنفسهم من أجل مواجهة هذا الانقسام المركب أو ما توافقوا على وصفه: باللامساواة والانحدار الكبير؛ وقد عبرت عن هذه الرؤية كتاب «ساندرز» الذى كان الأكثر مبيعا فى عام ٢٠١٧ المعنون: «ثورتنا: مستقبل نعتقد ونثق فيه» (٥٠٠ صفحة ــ ٢٠١٧). وها هو اليوم يقدم لنا كتابا جديدا صدر نهاية أكتوبر الماضى عنوانه: حارب الأوليجاريكة Fight Oligarchy؛

أكدت سياسات الإدارة الترامبية أنه يعمل من أجل مصالح الأوليجاركية الأمريكية الجديدة: المالية/ العقارية/ الرقمية لتحقيق ما يُعرف «بالوعد المحافظ» Conservative Promise؛ حسبما ورد فى وثيقة مشروع ٢٠٢٥ (٩٠٠ صفحة) التى بلورت رؤية الأوليجاركيون الجدد فى الولايات لمتحدة الأمريكية. لمواجهة الأفكار والسياسات الأوليجاركية التوجه أصدر «ساندرز» الكتاب ــ المانيفستو (الطبعة الرقمية لا تتجاوز ال ٧٠ صفحة). وقبل تناول أهم ما ورد فى الكتاب ننوه إلى أن الكتاب قد سبقه تأسيس حركة قاعدية شبابية أطلقها «ساندرز» مطلع ٢٠٢٥ تحمل اسم: جولة/ حملة مناهضة الأوليجاركية Fighting Oligarchy Tour؛ وقد اُعتبرت الحركة حدثا سياسيا وفكريا لافتا فى التاريخ المعاصر للولايات المتحدة. إذ لم تكن مجرد حملة تعبئة جماهيرية، بل تعبير عن مسار نقدى طويل يتبنى رؤية ترى أن الولايات المتحدة تنزلق، منذ عقود، نحو نظام أوليجاركى تتحكم فيه أقلية من أصحاب الثروة والشركات العملاقة فى القرار السياسى والاقتصادى والإعلامى. بلور «ساندرز» تلك الرؤية النقدية فى «الكتاب ــ المانيفستو» الفكرى/السياسى...فماذا جاء فى هذه الرؤية؟

(٤) «معاناة الناس فى الزمن الأوليجاركى»
بداية، يقع الكتاب فى ستة فصول جاءت عناوينها كما يلى: الأول: ماذا تعنى الأوليجاركية؟، والثانى: ترامب، الأوليجاركية، والشمولية، والثالث: الأوليجاركية العالمية: بليونيرات يكسبون، والعالم يئن، والرابع: لقد فعلوها، ونحن نستطيع أن نفعلها: دروس من التاريخ، والرابع: محاربة الأوليجاركية، والسادس: كيف تكون الحركة؟ يوفر الكتاب رؤية تجمع بين الفهم النظرى لتداعيات حكم القلة المالية/الثروية فى تفاقم الوضع الأمريكى الداخلى سياسيا واقتصاديا. وكيف تنظم تلك الأوليجاركية نفسها مع أقرانها خارج الحدود عولميا فى شبكة عابرة للحدود تزيد من أرباحها على حساب الأكثرية من ساكنى أمريكا والكوكب التى أصبحت تعيش معاناة غير مسبوقة تاريخيا. ويوضح فى تفصيل مكثف تلك المعاناة فى أكثر من موضع من مواضع العالم. ويستدعى «ساندرز» التاريخ مستلهما دروسه فى كيفية نضال الأسلاف ضد الأوليجاركية الكلاسيكية، ومن ثم كيف يستنفر الناس ضد الأوليجاركية فى طبعتها المعاصرة مجددا والانتصار عليها. وفى هذا المقام، يعدد سبل التحرك لمواجهة الأوليجاركية. كما يكشف ساندرز طبيعة الأزمة الديمقراطية الداخلية ودور الهيمنة الأوليجاركية فى مفاقمتها من خلال تحول الشركات إلى قوى سيادية التى تعمل على إفساد النظام الديمقراطى من خلال المال السياسى. وتفتح رؤية ساندرز واليسار التقدمى الجديد فى أمريكا أفقا للتفكير من خلال إعادة تعريف الصراع السياسى ليس كصراع بين أحزاب أو دول، بل كصراع بين الديموقراطية الاجتماعية الأوليجاركية بوجهيها المحلى والعالمى. إنها رؤية تستلهم تقاليد اليسار التقدمى وتُسقِطها على زمن العولمة الرقمية.
نقلا عن المصرى اليوم
نقلا عن المصرى اليوم