كمال زاخر
السبت 22 نوفمبر 2025

الأصولية والحداثة مصطلحان، خرجا من أروقة الأكاديميات وراحا يتصارعان في الفضاء الحياتي حتى إلى درجة المصادمة، ومن المشاهدات أنه صراع ومصادمة لا تجدهما إلا في المجتمعات المغلقة، فقد كانا خبز يوم اوروبا والغرب في عصورها المظلمة، وما أن خرجت أوروبا إلى النور حتى بارحها هذا الصراع والصدام ليسكنا الجدل الفلسفي في أروقة البحث، أما الصراع والصدام ـ الحالة ـ فقد حملا رؤاهم وقصدا العالم الثالث محلاً مختاراً، ونحن في القلب منه، ووجدا عندنا ما يمنحهم قُبلة الحياة كبيئة حاضنة بانغلاقها وعزلتها.

وقد نكون بحاجة إلى ضبط المصطلح أولاً، قبل أن نتعرض للعلاقة بين الأصولية؛ نفوراً ومقاربة، وبين الحداثة، وبعيداً عن القوالب الشائعة في فضائنا، الفكري والشعبوي، المصري. 

ولعلنا ننتبه أن هناك فرق بين الأصولية كاتجاه وبين الجذور كمنبت لما نعتقده، فالأصولية هي توجه يعتقد من يعتنقونه بامتلاكهم ـ ميراثاً ـ التميز والمثاليه، وازاء ما يحسبونه استهداف مجتمعي وربما كوني، يعملون على  صبغ يومهم ومعيشتهم، في الغالب شكلياً، بما ينتهي إلى العودة لـ "النقاء" الذى كان عليه اسلافهم، كنموذج مثالي طوباوي وقر في عقلهم الجمعي، وينعكس هذا بالطبع على مظاهر حياتهم وازدواجيتها. 

وعلى الرغم من أن توجه الأصولية يمكن أن نجده في كل المجالات، الحياتية والسياسية، إلا أنه يبرز بشكل حاد في الدوائر الدينية، وفيها يعتقد الأصوليون أن التزامهم الأساسي تعقب وتصحيح مسار من إنحرفوا عن معتقدات وممارسات الأولين، ولهذا كان العنف ـ المادي والفكري ـ ملازماً للأصوليين. رغم أن التشدد والتعصب ليسا بالضرورة مرتبطان بالأصولية، لكنهما يظهران في انساق سلوك الأصوليين عندما يفقدون القدرة على مجابهة تحديات الفكر الحداثي، ولهذا يبحثون في النصوص ـ المقدسة ـ عن ما يشرعن عنفهم، لأنهم يحسبون أنفسهم مكلفون بإعادة تفسير الدين وفق معايير الحداثة، دون جوهرها، ويتجهون إلى "تشييء" الدين، باختزاله إلى ممارسات مادية طقوسية، في غير التفات إلى جوهره، ويحولونه إلى أداة سياسية، كرد فعل ضد الحداثة، والعَلمانية، والتوجهات الليبرالية. 

فيما يمكن أن نفهم مصطلح "الحداثة" بأنها نتاج حركة الحياة وتطورها، وقد ظهر هذا المصطلح ـ في تقديري ـ مع الثورة الصناعية، وما استتبعها من تطور واكتشافات علمية، وتحولات متسارعة في انساق الانتاج، والتطور الاقتصادي واتجاه الإنسان إلى تبني رؤى وافكار اجتماعية، تتفق وهذه القفزات والتحولات. فكان الصدام مع الموروث بصيغه المختلفة، وكان الموروث الديني على رأس القائمة.

اللافت أن حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر كانت إحد أبرز تجليات الحراك الأصولي، رغم ما يطلق على كنائسها أنها كنائس مُحدِثة، ورغم صدامها مع الموروث الكنسي التقليدي، بإعلانها أن هدفها الرجوع إلى منابع المسيحية ورفضها لتراكم الخبرات الجيلية، ولحقها ما لحق الكنائس التقليدية، مع الزمن، من بناء نسق طقوسي، غير مكتوب، لكنه مستقر ينتقل عبر شبكة معقدة من الانقسامات والتي كانت واحدة من نتائج تبنيها لمبدأ حرية تابعيها في تفسير وتأويل الكتاب المقدس بغير الرجوع لخبرات الآباء. اللافت أنها في مصر تشترك في احتفاليات مرور سبعة عشر قرناً على انعقاد مجمع نيقية، وتعلن في غير مرة أنها تقر ما انتهى إليه هذا المجمع، الذي يتفق مع إيمانها، وفي بعض اجنحتها ترفض تعاطي منجزات الحداثة وتُحرِّمها وابرزها التلفزيون والسنيما، بل وتذهب إلى التفسير الحرفي للعهد القديم، وتبني عليه طيف من عقائدها. لنجد انفسنا أمام تنويعة مرتبكة للأصولية.  

غير بعيد، وعلى طرف نقيض، كانت الأصولية الكاثوليكية ترفض محاولات قراءة النص خارج المجال الكنسي وما استقر فيه من قواعد التأويل اللاهوتي، وقد تجلى هذا في موقفها الرافض للاهوت التحرير الذي انطلق من أمريكا اللاتينية، والذي يربط تحرير الإنسان اجتماعياً وسياسياً بالتحرر من الخطية، إلى حد انخراط الرهبان اليسوعيون في حركة المقاومة المسلحة هناك، ويتبنى ـ بحسب أطروحات الأب الراهب المصري وليم سيدهم اليسوعي فيما أصدره من كتب عن لاهوت التحرير ـ الدعوة لاعتبار الخطيئة الاجتماعية مثل الفقر والقهر والاستغلال والاستعمار والديكتاتورية على نفس خط الخطيئة الشخصية.

ويحسب للكنيسة الكاثوليكية أنها تنبهت لحاجتها لمراجعة واقعها المعيش فدعت لعقد المجمع الفاتيكاني الثاني، 1962 ـ 1964، في ثلاث دورات شارك فيها نحو الفين من اساقفتها من كافة انحاء العالم، إضافة إلى وفود من كل كنائس العالم من غير الكاثوليك بصفتهم مراقبين، يشتركون في الحوار ولكن بغير أن يشتركوا في التصويت على التوصيات والقرارات. وامتلكت الكنيسة شجاعة طرح كل القضايا التي تشغلها، وتؤرقها، بجسارة وشفافية، وموضوعية، انتهت إلى قرارات حاسمة استردت معها وهجها، عبر وثائق ايمانية وتدبيرية صدرت عن هذا المجمع، وفتحت خطوط تواصل مؤثرة مع عالم يموج بالتحديات والمخاطر اللوجيستية والفكرية، في عقد ستينيات القرن العشرين الذي شهد صعود ونفوذ تيارات الشيوعية والإلحاد والمادية، وهجرة الكنيسة، واستطاعت أن تجد لنفسها مكاناً فاعلاً، من موقع المؤازرة للإنسان وليس من موقع السلطة.

لم تكن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعيدة عن هذا الجدل، لكنها إيضاً لم تشتبك معه إلا مؤخراً مع إطلالة النصف الثاني من القرن العشرين، وإن كان بقاؤها حتى ذلك التوقيت بغير أن تندثر، شأن كنائس تاريخية عديدة، يعود الفضل فيه إلى تمسكها باصوليتها، بامتداد قرون عديدة، بعد معاناة مؤلمة شهدت انقطاعات حادة مع جذورها، بدأت على استحياء عقب مجمع خلقيدونية، القرن الخامس الميلادي، الذى انتج أول وأفدح انقسام في الكنيسة الجامعة، وقرار كنيسة الأسكندرية بالإنفصال وهجرة اليونانية لغة وثقافة، واعتماد القبطية بديلاً، لتدخل في دوامة الانقطاع المعرفي الأول، وتشهد حدثاً ذو دلالة بتحول اسمها من كنيسة الاسكندرية إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وإن بقي المسمي ضمن ألقاب البابا البطريرك. وأنا هنا أرصد وقائع تاريخية ولا اتناول وقائع المجمع وقناعات الكنيسة القبطية التي طرحتها فيه.

كان الإنقطاع المعرفي الثاني والأفدح في القرن العاشر، بعد استتباب الحكم والسلطة للقادم العربي، وتراجع الحضور القبطي في دواوين الحكم، فتصدر اوامر الحكام بمنع استخدام اللغة القبطية حتى داخل بيوت الأقباط، وتنصاع الكنيسة فتقوم بتعريب صلواتها وطقوسها، بأوامر من البابا البطريرك غبريال ابن تريك (1131 ـ 1146م.)، وسرعان ما يتقن الأقباط اللغة الجديدة بل ويسهمون في إثرائها، ويرصد التاريخ ما سجله "أولاد العسال" بها من قوانين كنسية وما جمعوه من شروحات، في القرن الثالث عشر الميلادي، وتعد الأبرز في الأدب المسيحي العربي التراثي.

كانت الإرساليات الأوربية والأمريكية، التى قصدت مصر باعتبارها بوابة افريقيا القارة العجوز، القابعة مع تراثها بعيداً عن وهج التطور وحركة الزمن ـ وقد جاءت فى موجات ثلاث، الأولى فى اعطاف الحملة الفرنسية، والثاية مع الاحتلال الإنجليزى، والثالثة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وبزوغ نجم الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى ـ كانت هذه الارساليات هى الشرارة التى ايقظت شباب الأقباط لينتبهوا لواقعهم المنبت الصلة بجذوره الضاربة فى عمق التاريخ، لاهوتاً وعقيدة وطقساً وحياة، لكنيسة كان لها دورها الفاعل فى حفظ الإيمان وتوثيقة بتدقيق للعالم كله.

تنوعت ردود أفعال الشباب القبطي وقتها بين ثلاث توجهات، لا يتسع المجال لتناولها تفصيلاً، لكننا نتوقف عند فريق منهم اشتبك مع الواقع الكنسي المؤسسي، كانت نقطة البداية الفاعلة عند تلاميذ الشماس حبيب جرجس تلميذ البابا كيرلس الخامس، ومؤسس منظومة مدارس الأحد، وقد تيقنوا أنه لا صحوة ولا نهضة خارج المؤسسة الكنسية، وأن قلب هذه المؤسسة والعنصر الفاعل هو "منظومة الرهبنة"، كانت الرغبة متأججة لكن ينقصها الرؤية اللاهوتية الآبائية، فقد كانت المكتبة القبطية تفتقر حينها للمراجع التي تحمل هذه الرؤية، وبالكاد تحمل رفوفها ترجمات لاهوتية وتدبيرية عن مصادر أخرى في محاولة لملء فراغها. 

على كل حال طرق هؤلاء الشباب أبواب الأديرة في مجازفة تحسب لهم، وتجري في نهر الكنيسة مياه كثيرة، ليجد هؤلاء الشباب انفسهم وقد تبوأوا مراكز قيادية في الكنيسة، هنا كانت المصادمة بين الأصولية والحداثة، كان الفكر أصولياً والأدوات حداثية، لكن لم يفارقهم هاجس الذوبان، لذلك تعمق تيار مقاومة كل محاولات التقارب والحوار مع الكنائس الأخرى.

ربما يفسر لنا هذا سر مقاومة سعي البابا يوساب الثاني لتواصل كنسي بمعايير زمانه، وهو الذي أوفدته الكنيسة وهو بعد راهباً للدراسة بجامعات اليونان اللاهوتية، لينتهي به الحال معزولاً بقرار من مجمع الاساقفة، ويواجه البابا شنودة نفس المقاومة عندما خطا خطوات مهمة في الالتقاء ببابا روما، مايو 73، بعد تجليسه بطريركاً، ووقع معه وثائق تدشن هذا التقارب، فيضطر في مواجهة المقاومة، وبسببها، إلى تجميد الحوار، ويتحول التقارب إلى لقاءات روتينية، لا تضبط ماءً، وتتكرر المقاومة مع البابا تواضروس بشكل أكثر ضراوة، وتتصاعد مع كل محاولة لتفعيل التقارب. وزاد على التقارب محاولاته مأسسة الكنيسة. الأمر الذي خرج بالمقاومة خارج اروقة الكنيسة. لتصبح ماة يومية موجهة على منصات العالم الافتراضي.

كانت خريطة التوازنات داخل الكنيسة تتغير، برحيل البابا شنودة بما يملكه من قدرات وبما يمثله عند مجموع الأساقفة وسيطرته على المشهد فهو الذي اتي بهم، وهم بعد شباب غض، ويشهد على هذا قراراته بالإبعاد والعودة إلى الدير لأكثر من أسقف خرج عن دائرة الخضوع. فيما يأتي البابا تواضروس من خلفية مختلفة، لم تتمرس في العمل السياسي، متأثرا بخلفيته العلمية المعملية، تحكمه قناعته بأنه في موقع الأخ من اخوته الأساقفة، ولم يكن يوماً طرفاً في صراعات المرحلة، وكان يتملكه حلم اعادة ترتيب البيت على ارضية مختلفة، لم يكن يواجه فقط هواجس ومخاوف الذوبان عند معارضيه، لكنه كان يواجه مصالح استقرت ومراكز قوي تجبرت، ويواجه أزمة كوادر لم تنل ما يستوجبه مناصبهم من بنية لاهوتية اكاديمية، وتتلمذوا على التعليم السماعي، الذي لا يملأ غياب تلك البنية اللاهوتية مؤهلاتهم الجامعية المدنية، وعمَّق الأزمة افتقارهم للتلمذة التي هي عصب الرهبنة وسرها، فكثيرهم لم تزد مدة بقائهم بالدير عن بضع سنوات. لا تزيد عن عدد اصابع اليد الواحدة. 

وقد يتساءل البعض وماذا عن المقاومين من الذين رسمهم البابا؟، ونجد الإجابة فيما صارت إليه الأديرة، وقد تخففت من حِمل التلمذة، وتهاونت في نذورها، بأقدار مختلفة، وشرَّعت أبوابها للزيارات بشكل افقدها سلامها وأدخلها في تجارب صعبة، وتَطَور نسق "عمل اليدين" ليتجاوز حد الكفاف، ليتحول الدير إلى وحدة انتاجية بلا ضوابط تخدم نذورها، تشاغلها حسابات الإنتاج واشكاليات التسويق وتتنقل من دائرة الفقر الاختياري إلى براح الوفرة، ويصبح الكهنوت حق لكل راهب، فتشهد الرسامات لدرجة القس قوائم انتظار بحسب الأقدمية، حتى فاض العدد عن الحاجة، وكان لهذا تداعياته السلبية التي اربكت الراهب والدير والكنيسة، وعلى مرمى البصر أغلقت مدرسة الرهبان بحلوان، والتي أنشئت لإعداد الرهبان المزمع رسامتهم للخدمة خارج اسوار الأديرة، تحديداً في رتبة الأسقفية، وكانت بمثابة مرحلة انتقالية من حياة الرهبنة المنعزلة إلى مرحلة الخدمة وسط الناس في إعداد تكويني يهيئ الراهب لذلك بدراسات متخصصة في العلوم الإنسانية والتدبيرية والاجتماعية، واللافت أنها أُغلِقت في حبرية البابا كيرلس السادس، وتحولت إلى مقر لأسقف حلوان. فمن أين للكنيسة يأتي من يقدر على خدمة الأسقفية في عالم لم يعد ببساطة زمن الإسقيط؟ حين كانت التقوى وحدها كافية لتدبيرها، وحتى هذه تعرضت للاهتزاز.

لم تبارحنا الأصولية، بمنهجها "تشييء الخدمة" وباشتباكاتها السياسية داخل الكنيسة وخارجها، بل اكاد ألمس تسليع الخدمة، ويكفينا نظرة واحدة لملابس ومقرات الأسقف ومظاهر وأنساق حياته وسلطاته المطلقة لتأكيد هذا، ويمكن في إيجاز أن نشخص الأزمة المعاشة بأنها "أصولية التفكير وحداثية الوسائل". 

ليست الأزمة في اشخاص بعينهم، فالمشهد مرشح بقوة لإعادة انتاجه مع الأجيال القادمة؛ بابا واساقفة وخدام ورعية، طالما لم نقترب من تحليل مدخلاتها ووضع حلول حقيقية وموضوعية لها، الكنيسة بحاجة إلى الإقرار بوجود اسباب حقيقية لمشاكلها، تبدأ عند آليات التعليم ومؤسسات إعداد خدامها النظاميين، الكهنة والاساقفة، وتحديداً الإكليريكيات والأديرة، ليس أمام الكنيسة خيار بديل عن العمل على طرحها ومناقشتها على غرار المجمع الفاتيكاني الثاني، بشفافية وتجرد وموضوعية، وهي تملك كوادر متخصصة من أبنائها قادرة على ذلك، تأسيساً على أنها ليست كنيسة طبقة وليست كنيسة ينفرد بها الإكليروس، بل هي كنيسة الشعب؛ جسد المسيح.