أحمد الخميسي
كل عمل فني هو عمل مركب من عدة عناصر، والأغلب في تاريخ الفن أن تعمل تلك العناصر متآلفة منسجمة معا لتصب في اتجاه واحد.
 
لكن يحدث في أحيان قليلة أن تتنافر العناصر المكونة للعمل وأن تتحرك بعضها ضد بعضها الآخر، فيتمزق العمل. انظر على سبيل المثال الموال الصعيدي الأشهر" شفيقة ومتولي" من التراث الشعبي،
 
وفيه مخزون من النغم الأصيل النادر، أما القصة فهي حكاية الأخ متولي الذي يطارد أخته شفيقة لأنها اختارت رجلا تحبه وسافرت معه إلى أن يجدها فيقتلها، وخلال ذلك يمجد الموال شخصية الأخ متولي ويشيد بشجاعته لأنه قتل أخته ! وهكذا يتضارب النغم الجميل المستمد من مئات السنين مع المعنى الوضيع الذي يرى في قتل المرأة بطولة. هنا تتضارب عناصر العمل الفني، وبينما يرفض المستمع المتحضر معنى الموال فإنه ينغمس في أنغامه، حائرا في ذلك التضارب، إلا أن المخرج على بدرخان قد القصة في فيلم يظهر أن شفيقة مظلومة جنت عليها المفاهيم البدائية. وبعيدا عن تضارب عناصر العمل الفني، فإن للفن أحيانا طرقه الخاصة في تشويه الحقيقة، ولعل أفضل مثال على ذلك هو الفيلم الأمريكي الشهير   
 
     " ولد يوم الرابع من يوليو" ، بطولة النجم المعروف توم كروز، وفيه يقوم البطل بدور شاب قرر أن يلتحق بقوات المارينز المحاربة في فيتنام لأن " أمريكا لا تعيش بدون تضحية ". وسنغض النظر عن استبدال مفهوم " التضحية من أجل الوطن " بمفهوم العدوان على فيتنام التي تبعد 13 ألف ميل عن أمريكا، وسوف نحسب أن تلك التصورات الملتبسة كانت تمثل جزءا من وعي الشباب المشوش.
 
هكذا يلتحق الشاب بالجيش لكنه سرعان ما يكتشف وهو المشحون بفكرة الدفاع عن أمريكا أن ما يقوم به الجيش هناك هو عدوان وجريمة، خاصة حين يصاب الشاب إصابة تعيده إلي أمريكا عاجزا جنسيا يتحرك على كرسي بعجلات.
 
ومن لحظة عودة الجندي إلى بلاده يضعنا المخرج أمام حالة إنسان دمرت الحرب حياته، التركيز كله على الشاب وعلى ألمه لأنه عاجز عن التواصل مع أبناء وطنه، بينما تغدو مأساة الشعب الفيتنامي نغمة هامشية يتردد صداها خفيفا في خلفية الأحداث، بينما تظل مأساة الشاب الأمريكي هي أساس العمل الفني. وهكذا ينتقل التعاطف مع المجني عليه اي الشعب الفيتنامي إلى الجاني، ومن الضحية إلى مرتكبها، وتصبح المأساة مأساة الجنود الذين عادوا محطمين، وليس اجرام الجنود الذين ذهبوا ليعتدوا على الآخرين.
 
وحتى عندما يقف بطل الفيلم في المظاهرات ملوحا بقبضته : " أوقفوا الحرب اللعينة " فإن اعتراضه على الحرب يأتي دفاعا عن حياة الجنود الأمريكيين، وليس دفاعا عن الشعب الفيتنامي.
 
وبذلك يحول الفن بؤرة التعاطف من المجني عليه إلي الجاني، وبذلك يقوم الفن بتشويه الحقيقة، حين يجعل الحرب  " فعلا أمريكيا مأساويا" ، وليس فعلا أمريكيا إجراميا! هذه أيضا إحدى الطرق التي يشوه بها الفن الحقيقة ، والتي تتضارب خلالها عناصر العمل الفني. وهناك نماذج أخرى كثيرة قد لا يتسع لها المقام هنا.