المعتدون يدرسون البيئة التي يعكسها سلوك الطفل.. من يخاف؟ ومن يتكلم؟
حنان فكري
الاعتداء الجنسي على الصغار، لم يعد صدمة عابرة تهز الرأي العام ثم تنطفئ، فخلال الأسبوع الأخير، زادت الإبلاغات عن وقائع الاعتداء الجنسي على الأطفال، فها هي أم تصرخ بعد اعتداء مدرب كارتيه، على ابنها الصغير، وأخرى تتقدم ببلاغ ضد جد اعتدى على حفيده دون السادسة. وسائقا أتوبيس مدرسة في التجمع يتحرشان بأطفال الروضة. ويشتد المشهد سوادًا على خلفية واقعة المدرسة الدولية بمدينة العبور، لنجد أطفالًا تحت التهديد يُجبرون على التعري، وبالترهيب يٌحاصرون في مستنقع الدنس، وبالتخويف تخضع الملائكة ويسود الاستسلام، نعم إنهم ملائكة لم تتجاوز اعمارهم الخامسة، مُكممو الأفواه، مُقيدو الجسد، تم اغتصابهم جنسيًا، على يد أربعة عاملين بالمدرسة.
فكيف تحول الحُماة إلى لصوص البراءة؟ وكيف تحولت أماكن الرعاية والتعليم والنوادي وربما دور العبادة الى فخاخ منصوبة للصغار، في كل فخ كارثة، وفي كل إفلات معجزة نجاة. فالجميع يثق في المؤسسة لدرجة تمنعهم من رؤية الخطر، وتصبح السلطة داخلها أعلى من قدرة الأطفال أو الأهل على الاعتراض.
لا يُدهشني فعل المعتدي بقدر ما يدهشني غياب الأسئلة عن البعض، ثم نعود لنترك أطفالنا في مبان فخمة، لنكتشف أن الجدران تعرف عنهم ما لا نعرفه نحن. وبينما يكتفي البعض بمصمصة الشفاه استنكارًا، تتخبط في رأسي الأسئلة، تتشابك، تتكاثر، تتزاحم ولا تجد منفذًا للخروج، تغمرني حتى تختنق رئتاي، فكيف تهيأت البيئة المدرسية لأن يحدث الاعتداء داخلها ويستمر لمدة عامين؟!
سؤال لا يستطع وزير التربية والتعليم الإجابة عليه، فكل ما أمكنه فعله وضع ضوابطً، للرقابة على المدارس الدولية والخاصة، فالوزارة تتعامل مع الاعتداء كواقعة تخص تلك المدارس، بينما تدرك جيدًا أن الحكومية منها، فقط لم يصبها الدور في اكتشاف انتهاكات جديدة، وأن تكرار الاعتداء دليل على خلل بنيوي، خلل يتكرر لأنه لم يجد من يتعامل معه بجدية. ويُلقى الطفل في المنتصف مثل دليل مزعج يجب إسكاته. بل في معظم الوقائع يُجبر على حماية سُمعة الكبار.
وما رأيناه في واقعة الأطفال الخمسة هو ما سمحت لنا الصدفة برؤيته، لكنه ليس كل الواقع، وعلينا مواجهة أنفسنا بأننا أمام ظاهرة خطيرة، تستند لحائط صلب من الخوف والصمت، ما لم يتم هدمه سيعاني المجتمع أشد معاناة ، فالصمت هنا يُشبه عقدًا غير معلن، صفقة ..بنودها: الستر مقابل ابتلاع الطفل للقصة حتى تمر، لكنها لا تمر. بل تتحول إلى صورة راقدة في الدماع، تستيقظ مع كل خوف جديد.
لماذا يصمت الضحايا؟
إن الخروج من القبو المظلم المُسمى بالاعتداء الجنسي على الأطفال يلزمه إجابة على سؤال مهم: لماذا لا يتكلم الأطفال؟ هل هي الصدمة فقط؟– أو الشلل الانفعالي كما يسمونه في علم النفس؟ فالطفل لا يسكت لأنه نسي. يسكت لأن دماغه يختار النجاة قبل الحكاية، وهو أثر مباشر لصدمة الاعتداء على دماغ الضحية، فضلًا عن التهديد الذي يخلق طبقة من الرعب تُخرس الطفل، مثل تهديده بإيذاء أسرته، أو قتله. كما يفسر الطفل غالبًا ذلك الاعتداء كخطأ ارتكبه هو. فيشعر بالخجل من نفسه، ويخاف من ردود أفعال الكبار.
وبنظرة عابرة على المجتمع، نجد أنه يصنع من الأطفال فريسة سهلة، نعم لأنه يرفع الكبار إلى مرتبة “المعصومين”، فيُسقط عنهم الشبهات، ويحرم الطفل فرصة الكلام بحجة الأدب، ويصم كل من يتعرض لانتهاك، ووفقا لكريستيان ساندرسون مؤلف كتاب إغواء الأطفال، فإن “المعتدي يختار الطفل الذي يعرف أنه لن يجد ظهرًا يحتمي به”. لذلك امتد الخرس عامين. فالمعتدون يدرسون البيئة التي يعكسها سلوك الطفل: من يتكلم؟ من يخاف؟ من يفتقر إلى الانتباه؟ من يظن الأهل أنه “قديس”؟ هذا التحضير يسمح لهم بتأسيس علاقة “أمان زائف” مع الطفل تمهيدًا للسيطرة.. وهو ما يمنح فرصة استمرار الاعتداء لمدة طويلة.
دورات حقوق الإنسان
وإذا تركنا المجتمع وألقينا نظرة خاطفة على أخطاء الأسرة، نجد الغالبية العظمى تلوم الطفل، فما يجري خلف الأبواب المغلقة أضعاف ما يتم الإبلاغ عنه في وقائع التحرش، إذ يتم الإبلاغ فقط عن نسبة لا تتجاوز 10% منها وفقا للإحصاءات، وبدلًا من الدفاع عنه تبدأ الأسئلة الظالمة: “لماذا سمحت بذلك؟”!، جاهلين أو متجاهلين أن الطفل لا يسمح بالاعتداء، الطفل يُغتصب منه ما يعجز عن حمايته، وأي تعاطي مع المعتدي يكون نتيجة استجابة بيولوجية لا إرادية، مما يشعر الصغير بالخزي لمجرد أن جسده تحرك. فيمعن في الصمت والاستسلام.
سوء إدارة ما بعد الصدمة
وحينما يضيق صدر الصغير، ويفصح عما جرى له، يُجبرونه على الصمت في سوء إدارة فج ل “ما بعد الصدمة”: .”عشان الفضيحة” “اِنسَ”، “ما تحكيش”، “خلي الأمر بينا”. فيتم تحويله لمشروع فضيحة يجب تحجيمها، فيتجمد وينغلق ويكبر داخله خوف جديد، الخوف من الكبار أنفسهم،.وبينما يدخل الطفل معركة أكبر من جسده، وأكبر من لغته، وأكبر من قدرته على استيعاب ما حدث له. يفاجأ بأن عليه أيضًا أن يدافع عن سمعة الكبار، وأن يتحمل عبء إنقاذ وجوه كثيرة من “الفضيحة”، بينما يبقى وحيدًأ مع الوصم، والذنب، والذاكرة التي تحتاج شفاء ولا تجده.
المأساة الحقيقية في هذه الوقائع أن الطفل يتعلم درسًا قاسيًا وما زال صغيرًا، يتعلم أن عليه حماية سُمعة الكبار قبل أن يحمي نفسه. وأن الكبار يخافون من الحقيقة أكثر من خوفهم عليه، وإن بقاء المؤسسة والطوب أهم من الشفاء لمنكسري القلوب، وإنه رغم نجاته تم تخريب جانب مهم من حياته.
النصف المظلم من التشريع
والأزمة لا تنحصر فقط في عدم وجود منظومة حماية قبل الواقعة، أو في فساد عقيدة الصمت، بعد الواقعة لكنها تمتد الى مضمون التشريع الذي يلوذ به اهالي الناجين والناجيات”الضحايا”، حتى يسترد الصغير حقه ليصدموا بجدار القيد والوصف للواقعة، فبعض مواد قانون العقوبات تشكل ظلمًا بينًا في جزء منها، يجب إعادة النظر فيه انصافًا لحقوق الطفل، منها المادة 267 من القانون الجنائي والتي تُعرف الاغتصاب بأنه مواقعة أنثى بغير رضاها، وتحدد شروطه وتهدد الجاني بالإعدام أو السجن المؤبد إذا كانت الضحية قاصرًا أو إذا ارتكبه شخص من المسؤولين عنها أو له ولاية عليها. لكن ما يغيب عن نص القانون هو أن الاعتداء الجنسي لا يقتصر على الأنثى، فالأطفال الذكور يتعرضون لانتهاكات أشد قسوة، تتلاعب بخليقتهم وطبيعتهم، ويترك أثرًا نفسيًا ومعنويًا لا يقل فداحة عن آثار الاعتداء على الفتيات.
صمت القانون عن حماية الذكور وغياب الاعتراف القانوني أن تلك الجرائم هي جرائم اغتصاب، تستوجب حكم الإعدام، يكرس فجوة كبيرة في الحماية القانونية للطفل ويمنح مرتكبي الانتهاكات ضوءًا أخضر من النصف المظلم للتشريع. كما أن توصيف الاغتصاب بأنه إيلاج كامل للعضو الذكري إلى فتحة المهبل، يقصر الأمر على الإناث، ويجعل كل ممارسة أخرى هي مجرد جريمة هتك عرض لا تستوجب عقوبة الاعدام، أقصى عقوبة فيها الحبس 15 سنة، وهو ما يجافي أثر الاعتداء الجنسي على الطبيعة الإنسانية أيًا كانت وضعيته، لذلك أصبح من الضروري إعادة النظر في المادة، وتوسيع تعريف الاغتصاب ليشمل كل الأطفال مهما كان جنسهم، ومهما كانت الطريقة التي استخدمها الجاني في الاعتداء عليهم.
سلحوهم بالتربية الجنسية
وبالرغم من أن تعديل التشريع يُمكِن المجتمع من أداة حماية حقيقية، ورادعة. إلا أنه لم يعد الخلاص في تشديد عقوبة هنا أو تعديل مادة هناك؛ فالجريمة الحقيقية أعمق، ومختبئة في الثقافة ذاتها. ولأن الهوس الجنسي لم يولد من فراغ، بل من تربة مجتمعٍ يرفض تسمية الأشياء بأسمائها، ويورث أولاده الخوف والجهل والصمت، فإن أول إصلاح يجب أن يبدأ من الداخل، من الوعي. نحن بحاجة إلى ثورة في الوعي، لا تُشعل الشوارع، بل تشعل العقول: حديث صريح عن الجسد، جنسنة بلا فزع، تعليم وقائي بلا وصاية، ومناهج تُسلح الأطفال بالوعي قبل أن تُسلمهم للعلم وللعالم. مناهج تربية جنسية، فالإصلاح يبدأ حين نفهم أن حماية الصغار ليست قرارًا رسميًا، بل قرارًا اجتماعيًا؛ وحين نتوقف عن صناعة الوحوش في الظلام، ونبدأ في صناعة وعي يحرسهم، لا يخذلهم.
نقلا عن وطنى





