القمص يوحنا نصيف
    انتقل إلى السماء الأسبوع الماضي في سيدني بأستراليا، صديق حبيب وخادم نشيط جدًّا، هو المهندس أمجد وهيب رزق الله.

    تربطني بأمجد صلة محبّة وصداقة لمدّة تجاوزت الخمسة والأربعين سنة. هو يصغرني بشهور قليلة، وقد تخرّجنا من المرحلة الثانوية في نفس العام 1980م، وبينما التحقتُ بكلّيّة الطبّ التحق هو بكلّية الهندسة. وبعد تَخَرُّجِهِ في عام 1985م، أتمّ الخدمة العسكريّة، ثمّ هاجر إلى أستراليا في أواخِر عام 1987م على ما أتذكّر، ولكن لم تنقطع صلته بكنيسته مار جرجس سبورتنج ولا بأصدقائه الذين انتشروا في كلّ أنحاء العالم.

    لأنّ الأسفار المقدّسة تُعلِّمنا أنّ "ذِكْرَ الصِّدّيق للبركة" (أم10: 7)، لذلك يَطِيبُ لي في هذا المقال أن أُسَجِّل بعض الذكريات الشخصيّة مع هذا الخادم المُبارَك، لعلّها تكون مصدر تعزية لكثيرين من السائرين في طريق الملكوت.

    + في طفولته، لم يكُن أمجَد مرتبطًا بالكنيسة، ولكنّه بدأ يواظب على حضور مدارس الأحد والقدّاسات في منتصف مرحلة ثانوي.. ومنذ ذلك الوقت، بدأ يهتمّ جدًّا بحياته الروحيّة وكانت علاقته بالله في مُنتهَى الجدّيّة والنشاط. وربّما هذا يعطينا درسًا في أنّ الإنسان يستطيع أن يبدأ مع الله في أيّ مرحلة، وكما نقول بالإنجليزيّة: It is never too late إنّه لم يَفُتْ الأوانُ أبدًا؛ لكن المهمّ أن نبدأ بإخلاص وصِدق، ونثابر حتّى النهاية.

    + أيضًا في طفولته، كانت ظروف عمل والده ووالدته، وغيابهما عن المنزل لفترات، تُحَتِّم عليه أن يكون مُعتمِدًا على نفسه في الكثير من الأمور من جهة تجهيز الأكل والملابس.. فتكوّنَت لديه شخصيّة قويّة مُستقِلّة، وهذا أفاده بعد ذلك عندما هاجر وشقّ طريقه في الحياة!

    + أتذكّر في صيف عام 1980م، وبعد أن انتهينا من امتحانات الثانويّة العامة، جاءتنا دعوة من أحد أصدقائنا لقضاء يوم معه ومع أسرته على شاطئ المعمورة، فقرّرنا أمجد وأنا قبل أن نذهب أن نُتحصّن جيّدًا بالمزامير ونصلّي التسبحة حتّى لا نتعرّض لأيّ عثرة. وبالفِعل قُمنا بذلك ثمّ ذهبنا سويًّا إلى صديقنا، وأمضينا وقتًا طيّبًا هناك. استمتعنا بالسباحة في ذلك اليوم، ودخلنا إلى عمق البحر حتّى وصلنا لجزيرة المعمورة، ثمّ صعدنا وجلسنا فوق الجزيرة لفترةٍ وبعدها عُدنا.. وكان يومًا رائعًا مليئًا بالمحبّة، والتمتّع بالطبيعة والبحر، وبتسبيح الله وتمجيده!

    + في سبتمبر من عام 1983م، ذهبنا أمجد وأنا مع ثلاثة خُدّام آخَرين إلى شرم الشيخ وذهب ونويبع ودير سانت كاثرين، وكانت هذه الأماكن في ذلك الوقت شِبه خالية، وقد استعادتها مصر للتوّ من إسرائيل بعد اتفاقيّة السلام. قضينا هناك عشرة أيّام جميلة، وكانت إقامتنا في خيمتين صغيرتين.. كان أمجد يصحو يوميًّا مُبكِّرًا قبلنا جميعًا، ويركع داخل الخيمة ومعه الصليب والأجبية ويصلّي المزامير في هدوء تام؛ وهكذا كان يتميّز دائمًا بالنشاط والحيويّة في كلّ أعماله.

    + كان أمجد طيّب القلب، ويتأثّر بكلام الإنجيل الذي يسمعه ويدرسه، ولديه استعداد كبير للتضحية في الخدمة.. كما كان ملتزِمًا جدًّا في خدمته ومتابعته لأيّة مسؤوليّة يُكَلَّف بها، في نشاطٍ فائق وأمانة مُمَيّزة.. فهكذا كان يعيش وصيّة الكتاب: "اذكُر خالقك في أيّام شبابك" (جا12: 1).

    + مع خدمته في أسرة مدارس الأحد، وفي خدمة وسائل الإيضاح، ساعد أمجد أيضًا لفترة في خدمة فصل إعداد الخُدّام. والحقيقة أنّه قام فيه بمجهود هائل، سواء في الافتقاد أو في المتابعة الروحيّة الشخصيّة لكلّ شاب، حتّى تخرّج من تحت يديه عدد كبير من الخُدّام.. وأتذكّر أنّه بعد هجرته إلى أستراليا، كان يتابع هؤلاء الشبّان روحيًّا ويُراسِلهم.. وفي مرّة فوجِئت بأنّه أرسل لي ظرفًا كبيرًا به عدد حوالي سِتّين كارت مُعايدة موضوعِين في أظرف صغيرة، ومكتوب على كلّ ظرف اسم الشاب، وطلب مِنّي توزيع هذه المعايدات والرسائل على الشبّان قبل عيد القيامة!

    + تميّز أمجد بالروح البسيطة المَرِحة، وكان ينادي الجميع بكلمة يا عزيزي، حتّى أنّه لُقِّبَ في وَسَط الخُدّام بأمجد عزيزي! لقد كان شعلة نشاط، لا يُضيّع وقته فيما لا يُفيد، حتّى أنّه كانت له عبارات شهيرة يقولها إذا طالت الاجتماعات أو المناقشات، يقولها مُنَبِّهًا بابتسامةٍ باللغة الإنجليزيّة التي كان يُتقِنُها منذ صِغَرِهِ: It is about time لقد حان الوقت، The time is over الوقت انتهى!

    + في فترة الثمانينيّات من القرن الماضي، كانت كنيسة مار جرجس سبورتنج تمرّ بفترة صعبة جدًّا؛ أثّرَت عليها روحيًّا وإداريًّا ورعويًّا.. وذلك نتيجة نياحة أبينا القدّيس القمّص بيشوي كامل عام 1979م، ثم غياب آبائنا العمالقة أبونا تادرس يعقوب وأبونا لوقا سيداروس بسبب دخولهم السجن في أحداث سبتمبر عام 1981م، وتلا ذلك إبعادهم عن الكنيسة حتّى عام 1991م.. في كلّ هذه الظروف القاسية كان أمجد إيجابيًّا ونشيطًا، يُرَكِّز جيِّدًا في خدمته ويُتاجِر بوزناته. 

    + على الرغم من قِصَر المُدّة التي خدم فيها أمجد بكنيسة مار جرجس سبورتنج، والتي لم تتجاوز ثماني سنوات، إلاّ أن تأثيره كان كبيرًا على حياة كثيرين، وظلّت صداقاته مع العديد من الخدّام ممتدّة، كمّا أنّ محبّته للمسيح وغيرته على خدمة الكنيسة كانت تنمو كلّ يوم، بل أنّه كان في كلّ زيارة لمصر يتابع ويساعد روحيًّا ومادّيًا في خدماتٍ متنوّعة..

    + يَعِزّ عليّ أن يفارقنا أمجد بالجسد، ويسبقنا إلى السماء؛ ولكنّ عزاءنا أنّ الله الذي يُقَدِّر تعب المحبّة سيكافئه بالفرح والمجد السمائي نظير خدمته الأمينة؛ فليسترِح الآن في حضن الربّ يسوع المسيح الذي أحبّهُ بصدقٍ، وخَدَمَهُ بإخلاصٍ ونشاط.

    الله قادر أن يَسكُب تعزيات الروح القدس في قلب زوجته حنان، وأبنائه المباركين إليورا وإيمانويل، وأخيه وفيق، وجميع أحبّائه.
    المجد والشكر لله على كلّ شيء،،

القمص يوحنا نصيف
* ملحوظة: ما ذكرته في المقال هو مُجرّد عيّنات بسيطة من ذكرياتي مع حبيبنا أمجد