فاطمة ناعوت
أما «محمد صبحى»، فهو أعرفُ من أن يُعرَّف، هو المُعلِّم عبر الفن والمُصلحُ عبر الكوميديا. ولهذا أُطلقُ عليه: «المايسترو»، لأن اسمَه صار «معيارًا» يُقاس به المسرحُ حين يُراد له أن يكون فنًا لا تسلية، وتربيةً لا استهلاكًا. هو الذى جعل الكوميديا أداةَ إصلاحٍ لا مُخدّرَ إلهاء.
وأما «المُخرِصون»، كما تقول المعاجم، فهم: «الذين يقولون الباطلَ حدسًا وتخمينًا، لا عن يقين ومعرفة». المُخْرِصُ ليس مخطئًا فحسب، بل متجرّئٌ على الحقيقة، واللغة العربية لا تترك له مخرجًا أخلاقيًا: فإمّا علم... أو صمت.
أكتبُ هذه المقدمة اللغوية بمناسبة حملات الهجوم الشرس على رموزنا المضيئة طمعًا فى إطفائها؛ حتى ينتشر الغثُّ والرِّخصُ فى أرض مصر العظيمة التى لم تتوقف منذ ميلادها قبل آلاف السنين عن إنجاب الهامات العالية وشواهق القامات. على مدار الأيام الماضية وألسن المُخرصين تلوك سيرة المايسترو «محمد صبحى»، فى واقعة انفعاله على سائقه، عقب خروجه من مسرح الهناجر. وهنا مثال فجّ على اغتيال السمعة عبر أنصاف الحقائق. مقاطعُ مبتورة، تخرصاتٌ دون علم، ومزايداتٌ رخيصة، انتهت إلى نهش تاريخ فنان قضى نصف قرن فى الدفاع عن القيم والأخلاق والرقىّ.
ولأن «أنصافَ الحقائق» أخطرُ من «الكذب الكامل»، اِجتُزِئَت لقطاتٌ خاطفة من الفيديو الكامل، فلم نر إلا انفعال «صبحى» قائلا للسائق: «هات المفتاح»، ثم قاد سيارته وترك السائق يركض وراءه. قيل إن السائق كان فى الحمام، وقيل إن «صبحى» متكبّرٌ يُعنّف البسطاء، وإن ما قدّمه فى «ونيس» من قيم النبل والأخلاق، زيفٌ وبهتان.. وفجأة نبتت للجميع أجنحةُ ملائكة «تطبطب» على رأس السائق الطيب، وتصفعُ النجمَ الكبير الذى أفنى عمَره لنتذوّقَ حلاوةَ الفنّ الرفيع، وسط صنوف الإسفاف التى نتجرعُها صاغرين رغمًا عن أنوفنا.
وكنتُ من الذين رقَّت قلوبُهم على السائق، لكننى أعرفُ «صبحى» عن قُرب وأعلم طبيعته المنضبطة، وعايشتُ محنته الصحية الأخيرة لهذا، وقبل أن أعلم الحقيقة كاملة، كتبتُ على صفحتى ما يلى:
(مَن منكم بلا خطيئة. أيها الملائكة.. ارفعوا أجنحتكم لأنها تحجب عنّا الشمس. كفى بحق الله.
«محمد صبحى» خارجٌ لتوِّه من عدة أزماتٍ صحية خطيرة ومتوالية، كدنا، لا سمح الله نفقده فيها، والضغوطُ عليه هائلة، وهو بعدُ لم يتجاوز محنةَ فقده لرفيقة حياته الجميلة «نيفين رامز»، رغم مرور السنوات على رحيلها، ولا أظنه سينجح فى تجاوزها. الجميع يعلم أن «صبحى» مريضٌ بالانضباط وهوس الإتقان. حتى فى البروفات لا يسمح بأى هِنَة أو هفوة أو تأخير. وفنانو فرقته يحبّون «كود الإتقان» هذا؛ لأنه سر عظمة أعماله وخلودها. نهج «صبحى»: Failure is NOT an Option؛ لهذا أطلقتُ عليه فى أحد مقالاتى: «الديكتاتور محمد صبحى». لكنه فى غير وقت العمل أرقُّ إنسان فى الوجود. هزار وطيبة وحنو وعذوبة. ولحظة خروجه من الحفل كانت الجماهير تتدافع نحوه، ما سبب له ضغطا عصبيا هائلا لم يتحمله وهو للتوّ خارجٌ من العناية المركزة. كفى تمزيقًا فى رجل قدّم لنا عمره لكى نضحكَ ونتعلمَ ونفكرَ ونُصلح. أَمِنْ لحظة ضغط نُعلق المشانق وننسى تاريخه؟! أُقبّلُ رأسَ السائق وأعتذر له. وواثقة أنه سامح الأستاذ، لأنه يعرف معدنه الكريم الذى لا يتعالى ولا يظلم. فرجاء لا تزايدوا. كلنا نتعرض لضغوط وننفعل على أصحابنا وأولادنا ونسامح ولا نُعلق المشانق كما تفعلون مع صاحب ٥٠ عامًا من العطاء والفن الذى لا شبيه له. «من منكم بلا خطيئة فليرمِه بحجر»).
أما حقيقة الواقعة فشىء مختلف تمامًا وهو ما عرضه الصديقُ المخرج «هشام السنباطى»، رئيس المهرجان، بشهود العيان وكاميرات المراقبة. الحقيقة تقول:
السائق لم يكن فى الحمام، بل كان جالسًا جوار باب المسرح يتفرّج على «صبحى» وهو يتعثّر فى خُطاه وسط تدافع المعجبين وكاد يقع على الأرض مرتين. ومضى أكثر من ربع ساعة حتى تمكَّن «صبحى» من الوصول إلى سيارته وسط الزحام الشديد والتدافع، فلم يجد السائقَ والسيارةُ مغلقة. فهاتف شقيقتَه لتكلّم السائقَ، فهو سائقُها ورقمه ليس مع الأستاذ. وبعد كل هذه المهزلة ظهر السائقُ؛ فقال «صبحى» بحسم: «هات المفتاح»، ودخل سيارته ومضى. السائق ركض خلف السيارة بضعة أمتار، وبمجرد أن لمحه الأستاذُ فى المرايا توقف. وانتهت الواقعة. لكن المُخرِصين لم ينتهوا وسنّوا ألسنَهم الطولى للنيل من هذا الرجل النبيل، الذى عزَّ مثيلُه.
يقول القرآن الكريم: «والكاظمين الغيظَ، والعافين عن الناسِ، واللهُ يحبُّ المحسنين»، وهذا ما فعله «صبحى» حرفيًّا: كظم غيظَه، وعفى عن السائق، ولم يقطع عيشه. أيها المُخرصون، كفى نهشًا فى الرموز، لأن «صبحى» شعلةٌ لا تنطفئ. نعتذرُ لك يا «مايسترو»، ونحبك.
نقلا عن المصري اليوم





