الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
إنّ تصنيف الأجازات الرسميّة في مصر وفقًا للطائفة الدينيّة يُعدّ تصميمًا طائفيًّا بامتياز، لأنّه لا ينظّم الزمن العامّ بوصفه زمنًا وطنيًّا مشتركًا، بل يعيد توزيعه على أساس الانتماء الدينيّ. وبهذا المعنى، لا يُعمّق هذا النظام مبدأ المواطنة، بل يُقنّنه بوصفه استثناءً، ويُحوّل الحقّ في الراحة إلى امتيازٍ طائفيْ.
لتحقيق المواطنة يجب أن يكون المبدأ واضحًا: "الأجازة للجميع، والعبادة لكل طائفة". حين تُعلن الدولة يومًا عطلة رسميّة، فإنّها تمنحه لجميع المواطنين بلا تمييز. من أراد الذهاب إلى دور عبادته فليفعل، ومن اختار البقاء في منزله فليبقَ. الدولة لا تُسائل المواطن عن سبب "تمتّعه بالأجازة"، ولا عن كيفيّة استخدامها.
الأجازة زمنٌ عامّ لا شعيرة دينيّة!
في النموذج المدنيّ أو العلمانيّ الحديث، الأجازة لا تُعدّ ممارسة تعبّديّة، بل تنظيم لزمن اجتماعي، لمناسبات مرتبطة بثقافة البلد. الخلط بين الأجازة والعبادة يؤدّي حتمًا إلى الطائفيّة، لأنّه يفترض ضمنًا أنّ الدولة تعرف مَن “يستحق” الراحة ومتى، بناءً على هويّته الدينيّة. وهنا يبرز التناقض في السياسات التي تمنح أجازات “للأرثوذكس” أو “الكاثوليك” أو ا"لبروتستانت“ أو للمسلمين”، لأنّها تفترض دولة تُصنِّف مواطنيها قبل أن تخدمهم.
فرنسا: علمانيّة صارمة وأجازاتٌ دينيّة مُعلمَنة
يُقدّم النموذج الفرنسي مثالًا بالغ الدلالة. ففرنسا، التي تُعدّ من أكثر الدول تشدّدًا في الفصل بين الدين والدولة، تعتمد في تقويمها الرسمي عددًا من الأعياد ذات الجذور الكاثوليكيّة: عيد الميلاد، عيد القيامة، عيد جميع القدّيسين… إلخ.
غير أنّ هذه الأعياد مُعلمنة بالكامل: هي أجازات لجميع المواطنين، لا تُربط بانتماءٍ ديني، ولا تُمنح لفئة دون أخرى. فالقانون الفرنسي مثلًا لا يقول: “إجازة للكاثوليك”، بل يقول: “يوم عطلة رسميّة”. الذهاب إلى الكنيسة أو أي مكان عبادة، أو عدم الذهاب، خيار شخصي، لا شأن للدولة به.
المفارقة اللافتة أنّ دولة علمانيّة صارمة مثل فرنسا نجحت في تحييد البعد الطائفي للأعياد لأنّها عمّمتها، بينما تفشل دول تعلن احترام التعدّدية الدينيّة في تحقيق هذا الحياد، بل وتؤسس للطاذفيّة المقيتة!
الطائفية المقنّعة باسم الخصوصية
الدفاع عن الأجازات الطائفيّة غالبًا ما يُبرَّر بخطاب “احترام الخصوصيّة الدينيّة”. غير أنّ هذا الخطاب يُخفي خللًا بنيويًّا: فالخصوصيّة تُصان في مجال العبادة، وفي مجالة حرّية الاعتقاد وليس في مجال الحقوق العامّة (العطلات الرسميّة).
حين تُجزّأ الأجازات حسب الطوائف، تتحوّل الدولة من ضامن للمواطنة إلى مُدير للاختلافات الدينيّة، وتُعيد إنتاج الطائفيّة في أكثر أشكالها خطورة.
إذا أُريد ترسيخ المواطنة فعليًّا، فإنّ المبدأ يجب أن يكون:
الأجازات الرسميّة: موحّدة وشاملة لجميع المواطنين.
الممارسات الدينيّة: حرّة، متنوّعة، ومنفصلة عن تنظيم الزمن العامّ.
بهذا وحده يُبنى فضاء مدني مشترك، لا يُسأل فيه المواطن: لماذا تأخذ الأجازة؟
بل فقط: هل أنت مواطن؟ نعم؟ إذًا الأجازة حقّك الكامل.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ





