د.ماجد عزت إسرائيل
ليست اللغة أداة محايدة في الخطاب الرسمي للدولة، بل هي تعبير مباشر عن فلسفة الحكم، ورؤيته للمواطنة، وحدود احترامه للتنوع داخل المجتمع. ومن هذا المنطلق، أثار بيان وزارة العمل المصرية بشأن تحديد الإجازات الدينية للمواطنين المسيحيين جدلًا واسعًا، ليس بسبب مضمونه فقط، بل بسبب لغته وصياغته ومنهجه في التخاطب مع الآخر.

المشكلة الجوهرية لا تكمن في الاعتراف بحقوق إجازات دينية، فهذا حق أصيل لا يُمنّ به على أحد، وإنما في الطريقة التي قُدِّم بها القرار.

فالبداية باستخدام مصطلح «غير المسلمين» أعادت إلى الأذهان لغة إقصائية قديمة، تُعرّف المواطن بالنفي لا بالهوية، وكأن المسيحي في وطنه هو مجرد “استثناء” من الأصل. وفي دولة تتبنى خطاب “الجمهورية الجديدة”، يصبح هذا الاستخدام تراجعًا لغويًا وسياسيًا لا يمكن تجاهله.

ثم جاء التعديل اللاحق، الذي قُسّم فيه المواطنون المسيحيون إلى طوائف (أرثوذكس، كاثوليك، بروتستانت)، ليطرح إشكالًا أعمق: هل أصبحت الدولة معنية بالتصنيف المذهبي لمواطنيها؟ وهل يُطلب من العامل أن يثبت انتماءه الكنسي داخل جهة عمل مدنية؟ هذا التوجه لا يراعي الواقع القانوني ولا الاجتماعي، بل يُدخل الدولة في مساحة لا تخصها، ويُحوّل الإدارة إلى ما يشبه السجل الطائفي، وهو أمر يتنافى مع مفهوم الدولة الحديثة. اللغة المستخدمة في البيان كشفت عن خلل آخر، وهو الخلط بين الخطاب الوعظي والخطاب الإداري. فمصطلح «الإخوة المسيحيين» قد يكون حسن النية، لكنه لا يليق بوثيقة رسمية. الدولة لا تخاطب أبناءها بلغة المنابر، بل بلغة القانون والمواطنة: «المواطنون المسيحيون». فالدقة في اللفظ ليست ترفًا لغويًا، بل احترامًا للهوية والمساواة.

  فإن التعامل مع المواطنين المسيحيين، بوصفهم شركاء أصليين في الوطن، يقتضي خطابًا واضحًا جامعًا، لا يقوم على الفرز ولا على الاستثناء. كما يقتضي شجاعة سياسية حقيقية، تتجلى في قرارات واضحة، على رأسها جعل عيد القيامة إجازة رسمية عامة، أسوة بعيد الميلاد المجيد، باعتباره العيد الأكبر للمسيحيين. المواطنة لا تُقاس بالنوايا، بل بالممارسات، وأول هذه الممارسات هي اللغة. فحين تضبط الدولة لغتها، تضبط بوصلتها. وحين تحترم دقة التعبير، تحترم مواطنيها جميعًا، بلا تمييز ولا تصنيف.

  وفي ختام هذا الحديث، يبقى الأمل أن نُنشئ أجيالًا مُحبّة للسلام، ونحن نقترب من ذكرى ميلاد رئيس السلام، الذي أنشدت له السماء:«المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام».سلامٌ نتعلّمه من تعاليمه، ونمارسه في قبول الآخر أيًّا كان، ونرسّخه في قيم تجمع ولا تُفرّق، وتبني ولا تهدم، وتُسهم في صناعة السلام بدل تعميق الانقسام. فالمواطنة الحقيقية، كما السلام، لا تُختصر في القرارات، بل تُبنى بالوعي، وتُصان باللغة، وتُعاش بالفعل اليومي.