بقلم : القس نصرالله زكريا
من القضايا التي شغلت -وما زالت تشغل- الرأي العام العربي بصفة عامة، والمصري على وجه الخصوص، هو ما يُعرف بقضية \"التبشير\"، ويترادف هذا المصطلح مع مصطلح آخر هو \"التنصير\"، والخلط بين هذين المصطلحين -في ظل الظروف التي تجتازها منطقتنا العربية- يثير الكثير من القضايا الحساسة والشائكة في آن. ويؤرخ الكثيرون من الكُتاب والصحافيين بدء الخدمة التبشيرية بالحملات الصليبية والاستعمار الأوربي لبلادنا العربية، ومع المساحة العريضة المتاحة لهذه الأصوات، نجد المسيحية عامة، والكنيسة خاصة ترزح تحت وطأة هذه الضغوط الشديدة مما أدى ببعض القيادات الكنسية لتناول هذه القضايا بتصريحات منها ما يعني: \"أن دور الكنيسة ليس هو التبشير إنما رعاية أبنائها\"، أو \"أننا نرد مَن يأتينا طلباً للمعمودية، أو معرفة المزيد عن المسيحية والمسيح\".
وكانت قمة التصريحات الكنسية هو ما قرأناه في الصحف بأن الكنيسة الأرثوذكسية تتبرأ من خدمة التبشير، وتعلن رفضها القاطع للأعمال التي تقوم بها منظماتتبشيرية، واصفة إياها بأنها تضم شباباً متطرفاً يُسئ للعلاقات بين المسلمينوالمسيحيين في مصر، وبالطبع لم يكن حال بعض قيادات الكنيسة الإنجيلية أحسن حالاً فالجميع يتعرض لذات الضغوط.
كل هذه الأمور جعلتني أقف متسائلاً عن الدور الحقيقي للكنيسة، وهل فقدت الكنيسة في العصر الحالي رسالتها؟ أم أن الضغوط من جهة والفهم الخاطئ لقراءة ظروف العصر، جعلت الكنيسة تعيد ترتيب أولوياتها بطريقة تتنافى مع الفكر الكتابي عامة، ووصايا السيد المسيح التي تؤكد على أولوية نقل البشارة السارة للجميع؟ وبدلاً من أن تهتم الكنيسة بخدمة التبشير ودعوة الآخرين للمسيح نراها تتهم أبنائها -مَن يقومون برسالتهم الإنجيلية- بأنهم أبناء عاقين متطرفين يسيئون لعلاقات الجوار الإنسانية؟
أمام كل هذه التساؤلات وجدتني أراجع بعض المفاهيم الكتابية والحقائق التاريخية في ضوء ظروف العصر الحالي، لأضعها بين يديك قارئ الكريم، لعلنا نتفق في بعضها، أو نختلف، لكن ما أؤكد عليه هو ألا نخلط بين ما هو كتابي وبين ما هو واقع تفرضه الظروف. ومع احترامي للجميع فإن حق التفكير وإبداء الرأي مكفول للجميع، كما أن احترام الآخر حق أيضاً علينا احترامه،
ومن هذا المنطلق أضع أمامك قارئ العزيز هذه الملاحظات:-
أولاً: التبشير .. المعنى والاصطلاح يأتي مصطلح \"التبشير\"
في لغتنا العربية من كلمة \"بشرى\"، والبشرى هي الخبر الطيب والمفرح، أما \"المبشر\"، فهو حامل هذه البشرى للآخرين حتى يفرحوا بما يُبشرهم به، وأمام الأخبار الطيبة يتسابق الكثيرون في نقلها بغية مشاركة الآخرين معهم في فرحة هذه الأخبار. كما أن التبشير لا ينحصر فقط في الأخبار الاجتماعية السارة، وإنما في المعتقدات والمبادئ، فمن يرى أنه يحمل مبادئ أو معتقدات، -سواء كانت دينية أو علمية أو اجتماعية أو غيرها- تفيد الآخر، نراه يحمل صفة المبشر ويُبشر الآخرين بهذه المبادئ والمعتقدات، والتبشير بهذا المعنى هو أمر إنساني، يشترك فيه جميع البشر على مختلف معتقداتهم وأديانهم، فالجميع متساوون في هذا الأمر، فلكل مجتمع أخباره السارة، وكل مجتمع فيه المبشرون بهذه الأخبار السعيدة.
أما عن الأديان، فهناك أديان يمكن أن نُطلق عليها أديان غير تبشيرية، مثل اليهودية، أما المسيحية والإسلام فهما ديانتان تبشيريتان، وأساس البشارة في كليهما –كما يؤمن معتنقوهما-، هي السماء، ففي المسيحية ، نرى بشارة السماء للقديسة العذراء مريم بميلاد السيد المسيح، في قول الملاك جبرائيل: \" سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ .. لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هَذَا يَكُونُ عَظِيماً وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ. وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ\" (لوقا 1: 26- 33)، وبعد ميلاد السيد المسيح نرى ملاك الرب يُبشر الرعاة قائلاً لهم: \".. هَأَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ\" (لوقا 2: 10، 11)، وفي الإسلام نرى الملاك جبرائيل أيضاً هو مَن يحمل رسالة السماء إلى الأرض، ويستخدم أيضاً ذات الكلمة \"بُشرى\" (سورة البقرة 97)، وهكذا فإن نظرة المسيحية والإسلام لرسالات الأنبياء إنما هم حملة \"بُشرى\" السماء للأرضيين، وما هؤلاء الأنبياء إلا مبشرون بهذه الرسالة السماوية، ومن هنا تأتي أهمية التبشير في كلتا الديانتين، وإن كان الاسم يختلف في كليهما، ففي المسيحية تُسمى \"تبشير\".
وفي الإسلام تُسمى \"دعوة\"؛ على أننا نرى ديناً غير سماوي، لكنه دين تبشيري ونشط في تقديم رسالته وبشارته للآخرين، هذا الدين هو البوذية، وهو من الديانات واسعة النشاط التبشيري وكسب الأتباع في أمريكا وغيرها من البلدان. ومن هنا نرى أنه لا عيب ولا خطأ في التبشير، لأنه تأكيد على اعتقاد المبشر بالرسالة التي يحملها للآخرين ويؤمن أنها لخيرهم، فيدعوهم للإيمان بها، والتبشير حق تكفله المواثيق الدولية وحقوق الإنسان، مع التأكيد على حرية الآخر في قبول أو رفض البشارة المُبشَّر بها.
ثانيا: التبشير .. رؤية كتابية وتاريخية
نستطيع أن نؤكد أن إعلان البشرى السماوية بخلاص الإنسان، قديمة قِدم الإنسان نفسه، فبعدما سقط آدم وحواء في الخطية وصارا منفصلين عن الله، وحق عليهما الحكم بالموت، كان الصوت الإلهي متمثلاً في الوعد الكتابي: \"وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ\" (تكوين 3: 15)، وتأكَّد هذا الوعد أكثر من مرة في العهد القديم، حتى تحقق في ميلاد المسيح ذلك الموعود به، والمُبشَّر به لخلاص الإنسان والبشرية، وقد زفَّت الملائكة بشرى ميلاده للسيدة العذراء والملائكة.
وعبر رحلة المسيح على الأرض لم تنقطع علاقته بأبيه السماوي، ولا بتأييد السماء لعمله وخدمته، وما أكثر ما كُتب عن خدمته على أنها خدمة تبشير، اقرأ معي ما جاء العهد الجديد: \"كَانَ يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرِزُ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ وَمَعَهُ الاِثْنَا عَشَرَ\" (لوقا 8: 1)، وكُتب عنه أنه كان: \"يُعَلِّمُ الشَّعْبَ فِي الْهَيْكَلِ وَيُبَشِّرُ\" (لوقا 20: 1)، وقد لخصَّ المسيح رسالته حين أعلن أمام قادة اليهود وفي مجمعهم قائلاً: \" رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ. وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ\" (لوقا 4: 18، 19)، وحين أمسك به أهل كفر ناحوم لئلا لِئَلاَّ يَذْهَبَ عَنْهُمْ، قال لهم: \"إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ الْمُدُنَ الأُخَرَ أَيْضاً بِمَلَكُوتِ اللهِ لأَنِّي لِهَذَا قَدْ أُرْسِلْتُ\" (لوقا 4: 43)؛ نفس الشئ علمه المسيح لتلاميذه ودربَّهم عليه، وقد أرسلهم إلى القرى ليبشروا الآخرين، يكتب البشير لوقا عن تلاميذ المسيح قائلاً: \"كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ\" (لوقا 9: 6). وبعد أن انتهت رحلة المسيح على الأرض وأكمل ما عليه من عملٍ، وقبل انطلاقه إلى السماء كلَّف تلاميذه بالإرسالية التبشيرية قائلاً: \"فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ\" (متى 28: 19، 20)،
وفي سفر أعمال الرسل نرى المسيح يضع استراتيجية تحقيق هذه الإرسالية قائلاً لتلاميذه: \"سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ\" (أعمال 1: 8)، وحقق التلاميذ إرساليتهم فذهبوا من بيت لبيت مُبشرين، وعلموا وخطبوا في الهيكل والمجامع اليهودية (أعمال 5: 42، 8: 12، 25)، وبالقطع لم تكن عملية التبشير أسهل من أيامنا هذه، فكانت هناك الديانة اليهودية الرافضة للتبشير المسيحي وللرسالة والإيمان المسيحي، بل قل الرافضة للإيمان بالمسيح والتي لم ترتق بإيمانها به على أنه نبي مُرسل من عند الله، معتبره إياه إنسان مثير للشغب، وكان هناك الإمبراطور الروماني الذي اعتبر التبشير بالمسيح تهديداً لمكانته، فكان الاضطهاد الذي استباح دماء التلاميذ وكل مَن يُبشر بالمسيح على أنه ابن الله، المخلص.
ولم يتخاذل الرسل أو التلاميذ، ولم يخنعوا أمام التهديدات، ولم يجدوا في رعايتهم للمؤمنين –على كثرتهم وقتئذ- سبباً يمنعهم من تأدية رسالتهم وبشارتهم، فكان الاضطهاد والتشتت سبباً في أنهم جالوا الأرض \"مُبشرين بالكلمة\" (أعمال 8: 4)، حتى كُتب عنهم أنهم \"فَتَنُوا الْمَسْكُونَةَ\" (أعمال 17: 6)، وقد عبَّر الرسول بولس الذي عاني الكثير في سبيل تقديم رسالة المسيح للجميع، ووصل بها حتى بيت قيصر، ولم يخش أحداً بكلمات ما أقواها، في تبكيتها لنا اليوم حين قال: \"لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ إِذِ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ\" (1كورنثوس 9: 16). وهكذا استمر التلاميذ والرسل والمؤمنون على مر العصور يحملون في قلبهم وفي رسالتهم البشرى السارة للجميع لا يهابون الموت ولا يخشون أحداً مستخدمين في ذلك كل حكمة ممكنة تساعدهم في تقديم رسالة المسيح لجميع الأمم، ولم تكف كنيسة المسيح يوماً عن تقديم بشرى رسالته للبشر.
وإن كانت تاريخية التبشير بدأت مع الإنسان الأول، فإنها لم ولن تتوقف حتى نهاية التاريخ، وإن كان المُبشر الأول هو الله، والذي في محبته أئتمن الإنسان على دعوة أخيه الإنسان لهدايته وإبلاغه بمحبة الله له، فالتاريخ زاخر بالمبشرين الذين حملوا البشرى السارة محتملين في سبيل رسالتهم كل صنوف الآلام حتى الموت، وقد كُتب في كلمة الله \" تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضاً وَحَبْسٍ. رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلاً بِالسَّيْفِ، طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ، وَهُمْ لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقّاًلَهُمْ\" (عبرانيين 11: 36-38).
ثالثاً: تبشير لا تنصير
مما تقدم نرى أن التبشير حق إنساني وديني، تكفله المواثيق الدولية ومنظمات ومبادئ حقوق الإنسان، ويتبارى كل من يحمل دعوة يرى أنها تفيد الآخرين في تقديمها لهم، وتتعدد المسميات لهذه العملية، فأحد يسميها \"تبشير\"، وآخر يُطلق عليها \"دعوة\"، لكن المعنى في النهاية واحد. ومن هذا المنطلق يمكن لأي كان أن يُبشر بما يؤمن به، وبالوسائل التي يراها مناسبة لذلك، فلكل إنسان الحق في حرية التفكير والوجدان والدين. ويشمل هذا الحق حرية الإيمان بدين أو بأي معتقد يختاره، وحرية إظهار دينه أو معتقده عن طريق العبادة وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، سواء بمفرده أو مع جماعة، وجهراً أو سراً، ولكل إنسان حرية كتابة وإصدار وتوزيع منشورات حول المجالات المتنوعة التي يؤمن بها.
وأمام الحقائق الكتابية والمواثيق الدولية، لا نجد بداً من أن تعلن الكنيسة رسالتها بكل قوة وبالأسلوب الذي يحقق فهم الآخر للرسالة التي تُبشر بها، وسواء قَيِل الآخر ما نُبشر به أم رفضه، فهذا لا يعني أن نمنع أو نقلل من تقديم الرسالة المسيحية التي كلفنا المسيح بتقديمها للعالم أجمع، ولم يخص فئة معينة من البشر، لكنه قال: \"اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ\" (مرقس 16: 15، 16).
وأمام هذه الحقائق على الكنيسة أن تتحد على اختلاف مذاهبها في تقديم رسالتها الواحدة، وهي محبة الله للبشر وغفرانه لخطاياهم في شخص الفادي يسوع المسيح، وهذا هو دور الكنيسة الحقيقية التي تعرف رسالتها والغرض من وجودها، وسواء قبل البشر رسالتها أم رفضوا فإن على الكنيسة ألا تتوقف يوماً عن تأدية رسالتها. أما التنصير ففي اعتقادي أنه حق مدني، يرتبط بالقوانين الوضعية للبلاد، وإن كان يجب على القوانين الوضعية أن تتسق مع مبادئ حقوق الإنسان التي أصبحت الآن بمثابة قوانين دولية موثقة، تعتمدها الكثير من دول العالم، بل ويقاس مدى تحضر الشعوب باحترامها لحقوق الإنسان، ومنها حرية الدين أو المعتقد، فلابد وأن تحترم القوانين الوضعية تلك المواثيق.
ومما لا شك فيه أن التنصير أو الأسلمة هما أمران معقدان لأنهما يرتبطان بعدة أمور وضعية ومدنية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ولا يُعقل أن يُمنع أحد من ممارسة حريته الدينية واختيار معتقده أو دينه، -تلك الحقوق التي كفلها الدستور- تحت ما يُسمى الحفاظ على العلاقات الإنسانية، لأنه باسم الحفاظ على هذه العلاقات يُهان الإنسان ويُستباح دمه -فقط- لأنه مارس إنسانيته. وعلى كل حالٍ فإن الذي يؤمن برسالة معينة فإن عليه أن يتحمل نفقات إيمانه، التي قد تُكلفه حياته.
وهذا لا يعني أن نتخلى عنه أو نسانده، لا أن نشبهه بالمارق أو العاصي أو المتهور. وأخيراً، أرى أن وصية السيد المسيح بضرورة وأهمية التبشير يضع الكنيسة أمام تحدٍ صعب، وليس أمامها سوى خياران، أما التحدي فهو كيفية تحقيق هذه الوصية الكتابية والإنسانية، والظروف المحيطة بها -من تعصب وتطرف وعنف وإرهاب- لا تشجع ذلك!.
أما الخياران فهما: إما الخنوع للمعطيات الراهنة والالتفاف حول تفسير الآيات والوصايا الكتابية بما يُعطل أو يمنع المؤمنين من ممارسة حق كتابي وإنساني هو التبشير بما يؤمنون، أما الخيار الآخر فهو التمسك بالإيمان المسيحي، وتقديم رسالة الخلاص والبشرى للعالم أجمع كما قال الكتاب المقدس، متخذةً من وصايا المسيح ونموذج حياته وحياة تلاميذه ورسله من بعده، طريقاً وأسلوباً لخدمتها متأكدة من معيته لها في وعده القائل: \"وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ\" (متى 28: 20)