بقلم: اقبال بركة

بعد كارثة نجع حمادى و مصرع سبعةمن الشبان المصريين أمام باب كنيسة على أثر انتهاء  ستة منهم من أداء قداس عيد الميلاد المجيد ، أصبح لزاما علينا بعد أن نفيق من الصدمة ، أن نفتش عن الأسباب الحقيقية وراء تلك الجريمة البشعة .
 
لقد بلغت جرائم الفتنة الطائفية ذروتها وعلينا أن  نتصارح و نخرج من حالة الوجوم و الصدمة ونتوقف عن الهروب من مواجهة الحقيقة البشعة   ..
و كما كتب الكثيرون لم تعد الوسائل التقليدية مجدية، لقد فشلت جميعا ومعها استفحلت المشكلة و تراكم العدا ء و ارتفعت درجة الاحتقان الى درجة تنذر بالخطر .  و هناك ملفات لاحصر لها تنتظر أن تمتد لها الأيدى الأمينة على هذا البلد الحريصة على سلامته و أمنه و مستقبله . وعلى الحكومة أن تستجيب لنداءاتنا  بل صرخاتنا المتكررة بإصلاح المناهج التعليمية و تثقيف المعلمين الذين يبذرون الفتنة و توعية أئمة ووعاظ المساجد الذين لا يشغلهم شىء فى الحياة سوى  المرأة , ..و.. و..
 
وواحدة من المشاكل التى آن الأوان أن نزيح الستار عنها هى  مشكلة  بناء دور العبادة لغير المسلمين فى بلادنا ، و ذلك الشعور العدائى و القلق الذى ينتاب العامة من بناء دور كنائس جديدة  على أرضنا .  بعض القرويين اتخذوا إجراءات عنيفة ضد إخوة لنا  حاولوا بناء مكان للتعبد فى  بيوتهم  ، و انتهى الأمر الى ارتكاب جرائم عنف ضدهم ، مع حيرة الأمن و تخبط رجاله إزاء عدم وضوح  موقف الدولة من تلك المشكلة . 
 
و يبدو أن هذه  المشكلة متأصلة بين المسلمين ، ذلك الذعر الذى يصيبهم  عند رؤية معابد أخرى  تبنى لغيرهم ، فمنذ  ما يقرب من مائة و خمسين عاما ، وقت أن  كانت مصر واقعة تحت الهيمنة العثمانية تصدى السلطان عبد المجيد بن محمود (  1839- 1861م ) لحل تلك المشكلة وأصدر قانون "الخط الهمايونى " ( أى القرار السلطانى ) فى فبراير عام 1856 ، و كان حاكم مصر وقتها هو سعيد باشا ( 1854- 1863 م ) . و للسلطان عبد المجيد فى ذاكرتنا واقعتين أولهما أنه أصدر قانونا فرض على أتباعه التخلى عن العمامة و لبس الطرابيش ، و الثانى أنه كان وراء  معاهدة 1948 التى قصقصت جناحى محمد على باشا و ألزمته الحدود المصرية بعد انتصاراته على السلطان . وقد ساندت السلطان كل من بريطانيا و فرنسا ، القوتين الأعظم فى القرن التاسع عشر ، و لكى يرد لهما الجميل أصدر عبد المجيد مجموعة من الفرمانات التى أطلق عليها إسم " التنظيمات " بهدف استرضاء الشعوب الخاضعة للسلطنة العثمانية فى دول أوروبا المسيحية ، و محاولة دمجها بالمجتمع التركى/ العثمانلى ، ولإخماد  الحركات الإنفصالية  التى  تفشت مع صعود تيار الوطنية بين الشعوب .
 
تصدرت الفرمان "الخط الهمايونى " عبارة  يبرر فيهاالسلطان اصداره ذلك لفرمان: ل( حفظ الناموس فى حق جميع تبعتى ( رعاياى )  الموجودين فى أى دين كان بدون إستثناء ) أى بدون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة ، إلا أن السلطان ألزم كل من يعتزم (ترميم أو إصلاح أو تجديد الكنائس وإنشائها بعرض صورة رسمها وإنشائها إلى "بابنا العالى" لكى تقبل تلك الصورة المعروضة ويجرى أقتضاؤها على موجب تعلق إرادتى السنية الملوكانيه أو تتبين الإعتراضات التى ترد فى ذلك الباب فى ظرف مدة معينة ) وذلك بعد أن "يستصوبها البطريرك أو رؤساء الملة" أولا .
و ياليتنا نعود الى ذلك الخط  الهمايونى الذى يؤكد على حرية العقيدة  فيقول :( ينبغى أن تؤخذ التدابير اللازمه لأجل تأمين من كانوا أهل مذهب واحد مهما بلغ عددهم ليجروا مذهبهم بكل حريه ثم تمحى وتزال مؤبدا من المحررات الديوانية جميع التعبيرات والألفاظ والتمييزات التى تتضمن تدنى صنف عن صنف آخر من صنوف تبعة سلطنتى السنيه بسبب المذاهب أو اللسان أو الجنسيه ، لا يمنع أحد أصلا من تبعتى الشهانية عن إجراء فرائض ديانته ) .
هل هناك وضوح أكثر من هذه العبارة الرائعة ؟ وهل نحن اليوم نفعل ما أمر به خليفة رسول الله – فى ذلك الوقت – أم أننا صرنا نتبع مذاهب أخرى لا تمت للإسلام بصلة ...؟
 
 إضافة الى ذلك  يؤكد السلطان / الخليفة  فى  "الخط الهمايونى " حق غير المسلمين فى  التعيين فى التجنيد والترقى الى أعلى المناصب فى كافة الوظائف العامة  و من بينها العسكرية : ( إن جميع تبعة دولتى العلية من أية ملة كانوا سوف يقبلون فى خدمة الدولة ومأمورياتها بحسب أهليتهم وقابليتهم يقبلون جميعا عندما يفون الشروط المقررة سواء حق جهة السن أو الأمتحانات فى النظامات الموضوعة للمكاتب بدون فرق ولا تمييز فى مكاتب دولتى العسكريه والملكيه ) و يقرر أن ( المساواة الحقيقية تستلزم المساواة فى الوظائف أيضا فينبغى أن يكون المسيحيون وباقى التبعة الغير مسلمة مجبورون أن ينقادوا بحق إعطاء الحصة العسكريه مثل أهل الإسلام وتنتشر وتعلق فى أقرب وقت أمكن وأن يتوضح أمر انتخاب الأعضاء الذين يوجدون فى مجالس الأيالات والأولوية من الإسلام والمسيحين وغيرهم بصورة صحيحة ) .
 
و قد تعرض السلطان عبد المجيد للعديد من المؤامرات و محاولات الإغتيال بسبب هذه التنظيمات ، و لكنه أصر على تنفيذها ، بغرض حماية الإمبراطورية شاسعة الأرجاء التى ورثها عن أجداده  . و ظل أهل الذمة فى الدول التابعة للامبراطورية العثمانية يتمتعون بحق بناء كنائس جديدة و ترميم و صيانة القديمة ، و هو ما يفسر كثرة الكنائس التبشيرية الأجنبية فى كل البلاد العربية. و لم يدم شهر العسل بين الدولتين العظميين و رجل أوروبا المريض ( السلطنة العثمانية  طويلا ،  فبعد  اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914  فرضت بريطانيا حمايتها على مصر  ، وبدأ المصريون يعيدن النظر فى كل ما ينتمى للدولة العثمانية ، ومن بينها  فرمان الخط الهمايونى " و بدلا من التقدم خطوة للأمام  تراجع موقف مصر من تلك المسألة عشرات الخطوات ، عندما أصدر  وكيل وزارة الداخلية "محمد العزبي باشا" فى نهاية عام  1933قرارا يتضمن عشرة شروط  لابد أن تتوفر لمن يرغب فىالحصول على ترخيص ببناء أو تجديد كنيسة على أرض مصر كانت أقرب الى التعجيز من التيسير .
 
و بعد إعلان ثورة يوليو بشهور قليلة أثيرت مشكلة حول بناء احدي الكنائس و أصدر السنهوري باشا في ديسمبر 1952حكما قضائيا بإزالة أية قيود تعترض حرية الشعائر الدينية  .. إلا أن المشكلة أثيرت مرة أخرى في نوفمبر عام 1972م بعد أحداث حرق كنيسة العذراء بالخانكة ،و رأت لجنة برلمانية رأسها آنذاك الراحل/ الدكتور جمال العطيفي أن إصدار قانون موحد لتنظيم إنشاء وإصلاح دور العبادة دونما تمييز ضد أية جماعة من شأنه  أن يقضى على العنف الطائفي  . 
و للأسف لم يصدر هذاالقانون حتى  يومنا هذا  ، كما لم تتوقف الاشتباكات و الصراعات الطائفية أو تهدأ بل لعلها زادت  عن أى فترة سابقة فى تاريخنا .
لقد كان الدستور المصرى السابق ، دستور 1923 ،  يتضمن المادة 12  التى  تنص على أن " حرية الإعتقاد مطلقة " ، ثم أضيفت فى الدستور الحالى المادة 2 التى تنص على أن مصر دولة إسلامية والشريعة الإسلامية هى المرجع الأساسى لكل القوانين ، فهل فىالشريعة الإسلامية ما يضيق على أهل الذمة فى ممارسة شعائرهم فى دور عبادة  خاصة أو يمنعهم من تجديد وترميم كنائسهم ..؟! .
 
لقد وافقت اللجنة البرلمانية المختصة على موضوع المشروع الذى قدمته  لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب منذ فترة إلا أنه لم يناقش حتى اليوم . و اذا كان من حق كل دولة أن تنظم الحياة على أرضها وفقا لما يتفق مع ثقافتها ومصالحها ،فلا بد أن تطبق التعليمات و التدابير على كل المواطنين بصرف النظر عن الاختلافات العرقية أو الدينية .والمادة 40 من الدستور  تنص على " المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة لا تميز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة ". كما أن المادة الثامنة من الدستور التى تقول " تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين ".
 
فلماذا يتعثر مشروع القانون الموحد لدور العبادة ؟
سؤال سيظل يتردد فى أذهاننا الى أن تبرأ الدولة من حالة الطناش التى أصيبت بها منذ سنوات طويلة ..