بتوقيت مكة المكرمة
بقلم: عماد سيد أحمد
حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، لم يكن العالم العربي كله (من المحيط إلى الخليج) يعرف سوى توقيت عربي واحد يقيس به الزمن، هو توقيت القاهرة .
وإذا كانت قلوب المواطنين العرب طوال عهود مضت ظلت، ولا زالت، منقسمة بين مكة المكرمة وفيها الكعبة (بالنسبة للمسلمين)، وبيت لحم وفيها كنيسة القيامة (بالنسبة للمسيحيين)، والقدس وفيها حائط المبكى (بالنسبة لليهود). لكنهم جميعًا -أي العرب- لم يكن لهم سوى وجهة ثقافية وحضارية واحدة هي القاهرة عقل العالم العربي .
لكن الآن تغيرت الأوضاع، فبعد إزدياد النفوذ السعودي، من خلال الآلة الإعلامية الواسعة التي توجهها الرياض، لم يعد غريبًا أن يصبح توقيت مكة المكرمة، هو السائد في أغلب البلدان العربية، وفي داخل عدد غير قليل من البيوت المصرية، في مقابل تراجع التأثير الثقافي لمصر .
(1)
تعرضت "المملكة العربية السعودية" لموقفين فاصلين خلال حقبتين متباعدتين من تاريخ العلاقات مع مصر في العصر الحديث، الأول: كان في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، عندما وجه
"محمد علي باشا" حملاته العسكرية على المملكة؛ للقضاء على (الحركة الوهابية) نزولاً على رغبة العثمانيين، الذين خشوا من إستقلال بلاد الحجاز عن الخلافة العثمانية آنذاك .
وإستطاع "محمد علي" بعد ثلاث حملات عسكرية، في الفترة من عام (1813 حتى عام 1818)، القضاء على الوهابيين، وتسليم الأمير "عبد الله" قائد الحركة للسلطان العثماني، الذي أعدم زعيم الوهابيين في إستانبول عام 1918 .
الثاني: إنقلاب يوليو عام 1952 الذي قاده تنظيم الضباط الأحرار، وإعلان قيام الجمهورية في مصر، وما مثله ذلك من تهديد للأنظمة الملكية في المنطقة، خصوصًا بعد إنفراد جمال عبد الناصر بالحكم .
وبذلك أدركت السعودية، منذ وقت مبكر، أن من يستطيع التأثير في القرار السياسي، ويتحكم في توجيه الرأي العام المصري، يتسنى له التأثير في العرب جميعًا، وفي قيادة العالم العربي، والتفاوض بإسمه مع القوى الإقليمية والدولية، سواء أكانت إسرائيل أو أمريكا أو غيرها من تلك التي لها تقاطعات في الشرق الأوسط، من يستطيع أن يكون له هذا التأثير هو من يتحكم في العقل وليس من يملك جزء من القلب .
(2)
لقد سعت المملكة السعودية لبناء إستراجيتها في المنطقة بشكل حثيث في ظل معادلة إقليمية صعبة، فكانت بعيدة النظر عندما رفضت أن تستغل الظرف السياسي الذي ساد المنطقة العربية عندما أقدمت القاهرة على توقيع إتفاقية كامب ديفيد من أجل السلام مع إسرائيل عام 1978، فلم توجه إنتقادات عنيفة لمصر، مثلما فعلت الأنظمة الثورية العربية، وإن سايرتها السعودية في مواقفها الرافضة لمعاهدة السلام، وفي نقل المقر الرئيسي للجامعة العربية من وسط العاصمة المصرية . فقد إزداد النفوذ العراقي في الخليج، وقوية شوكة السوريين في لبنان، وتمدد حجم التأثير الليبي كل ذلك نتيجة تحييد مصر عن دورها العربي .
عقب إغتيال الرئيس المصري "أنور السادات" في 6 أكتوبر عام 1981، سعت المملكة لفك الحصار العربي عن القاهرة تدريجيًا، وبالتوازي مع ذلك بدأت في تنفيذ أكبر خطة للتغلغل في مصر، من أجل تقويض مشروع النهضة المصرية وتوظيفه لحسابها (لأن القاهرة إنفردت بكافة القرارات المصيرية في تاريخ الدولة العربية الحديثة، فهي من قاد النهضة، وفيها تأسس أول برلمان عربي، وصدر أول دستور، وأعلنت الجمهورية، وإتخذ قرار الحرب والسلام) .
عندما وجدت السعودية الفرصة السانحة، بدأت في تنفيذ خطتها القديمة الحديثة، وقد ساعدها المناخ السياسي الذي ساد في مصر أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، ويتلخص هذا المناخ في التالي:
1- مد إسلامي قوي متعدد الإتجاهات، تمكن من إغتيال رأس الدولة المصرية.
2- القاهرة تواجه أوضاع إقتصادية صعبة، فقد كانت المساعدات الإقتصادية الأمريكية لمصر في بداية عهدها ولم تكن هناك ثقة لدى المصريين في إستمرارها.
3- إنقلاب السادات على سياسات سلفه تجاه العالم العربى بالكلية، فمن الإنخراط التام في القضايا العربية أيام عبدالناصر، إلى الإبتعاد والخصومة مع الأشقاء العرب في عهد الرئيس السابق.
ومن ثم قامت سياسات السادات من أجل مستقبل مصر على قاعدة إعطاء مصر ظهرها للعرب بغض النظر عن مصالحها، بما في ذلك ما يقع في صميم الأمن المصري من قضايا .
4- رئيس جديد يتولى الحكم في عام (1981) خلفًا للسادات الذي دفع حياته ثمنًا لخيار السلام مع إسرائيل، وزيارته لها نوفمبر 1977، والرئيس الجديد (حسنى مبارك) لا يعرف الصدام مع الخارج ويتخذ من الدبلوماسية أداة أساسية لحل خلافات بلاده، وهذا ما أدركته المملكة عندما كان نائبًا لسلفه، وكان رسوله لكثير من البلدان العربية. ولم يكن الحوار الذي بدأ بين القاهرة والإمارات بعد توليه الحكم مباشرة بعيدًا عن التوافقات السعودية مع أحد شيوخ الخليج الشيخ "زايد" الذي بادر بفتح أول حوار عربي مع مصر لرفع الحصار عنها.
(3)
إستعانت المملكة بوسائل عديدة مكنتها من الدخول إلى أعماق المجتمع المصري، والتغلغل فيه. يأتي في مقدمة هذه الوسائل الإستثمارات الإقتصادية للحكومة السعودية، ولرجال أعمال سعوديين وخليجين خاضعين للنفوذ السعودي، وساعد في ذلك عوائد النفط الضخمة التي نقلت المملكة من حال إلى حال.
في دراسة سابقة لغرفة التجارة الألمانية بالقاهرة مطلع التسعينيات، إشارة إلى أن رجل أعمال سعودي واحد أسس في مصر 55 شركة في مجالات متنوعة، جميعها حقق خسائر متتالية الأمر الذي يعد لغزًا غير مفهومًا .
لكن رئيس أسبق لغرفة التجارية الألمانية وهو رجل أعمال مصري - يفضل عدم ذكر اسمه - يقول أن هذا الرجل كان يحقق مكسبين مهمين من وراء شركاته في مصر الأول، توظيف عدد غير قليل من أبناء كبار المسئولين في الحكومة، والحزب الحاكم، برواتب مغرية مما ساعده على التغلغل في أوساط النخبة الحاكمة، والثاني، هو مؤازرة ودعم النشاطات والأفكار ذات الصبغة الإسلامية، ومساندة أصحابها الذين يعرفون بصلاتهم القوية وروابطهم المتشعبة مع المملكة.
وخلال الفترة الماضية ثارت غضبة شديدة في أوساط ضيقة من النخبة المثقفة المصرية، عندما قرر رجل الأعمال السعودي الشيخ "عبد العزيز الإبراهيم" منع تقديم الخمور في أحد الفنادق الكبرى على نيل القاهرة، ولم يتراجع عن موقفه إلا بعد ضغوط من الحكومة المصرية ولولا ذلك لكان له ما أراد .
(4)
وحسب تقرير للبنك الدولي حول تحويلات العمالة المغتربة في العالم، أشار إلى أن العمالة المصرية في الخارج حولت إلى مصر أكثر من 5 مليار دولار في 2006، وأن السعودية تعد أكبر مصادر هذه التحويلات بما قيمته مليار و680 مليون دولار، تليها ليبيا بما قيمته 382 مليون ثم الولايات المتحدة الأمريكية 328 مليون وتحويلات من دول أخرى مثل كندا وأستراليا والأردن ثم إسرائيل بما قيمته 48 مليون دولار. وهذا أحد مناطق النفوذ السعودي المهمة في المجتمع المصري فضلاً عن تحويلات العمالة المصرية من دول الخليج التي يشيع فيها التأثير والنفوذ السعودي وأنماطه الثقافية .
لا شك أن الآلاف من الشباب المصريين بعد سنوات طويلة من العمل في المملكة، يعودون بأفكار سلفية وهابية، ويعملون على نشرها في المجتمع بقصد أو بدون قصد؛ خدمة للمملكة التي دفعت بسخاء وعملت على إنشاء مئات من دور العبادة في المناطق الفقيرة في كل محافظات مصر، وتقوم على تدريب العشرات من الدعاة الدينين سنويًا لتبشر بالوهابية في هذه المساجد، وبعضهم أصبح ذات شهرة واسعة وتأثير قوي .
(5)
وفي بداية التسعينيات كان لافتًا للنظر، أن شرع رجل أعمال سعودي في تأسيس جريدة اقتصادية برأس مال كبير، وكان اللافت للإنتباه أنه نجح في إستقطاب عدد من كبار الصحفيين، والكتاب المحسوبين على اليسار المصري، وليس الإسلاميين، للعمل في الجريدة الناشئة مقابل رواتب سخية لم يكن لها نظير آنذاك في الصحافة المصرية.
كان قد سبق هذه التجربة طبع إصدارات عديدة خارج مصر، ما بين صحف يومية، ومجلات أسبوعية، القاهرة أكثر عاصمة عربية تستهلكها، وذلك بخلاف عدد غير قليل من القنوات والمحطات الفضائية العربية التي أصبحت تحتكر بث مواد إعلامية ومباريات كرة قدم عجز التلفزيون المصري عن تقديمها بعدما بات ضعيفًا في مواجهتها. وبذلك أصبح توقيت مكة المكرمة أكثر انتشارًا، وتأثير المملكة الروحي وليس الثقافي (فهي لا تمتلك شيء حضاري حتى تقدمه) أكثر إتساعًا، وينعكس ذلك بوضوح على الأنماط الإجتماعية في مصر في الملبس والمأكل والسلوك وغير ذلك في أوساط العامة، وإنه لخطر عظيم .
إن المملكة التي تخوض اليوم حربًا ضد الحوثيين اليمنيين مؤازرة لنظام الرئيس عبد الله صالح ، حسبما تؤكد المعارضة اليمنية، لا تسمح للسياسة الخارجية المصرية في المنطقة إلا بالتبعية ، ولا يستطيع المرء إغفال التقارير المنشورة في الصحافة الغربية، والتى تعرض في بعض مراكز الأبحاث عن الإرتباط السعودي القطري، والتنسيق فيما بينهما لحساب مصالحهما؛ إمعانًا في عرقلة الدور المصري تجاه الملفات العربية التي تقع في صميم أمننا القومي، والتي باتت مرهونة بالتحرك السعودي .
الآن ليس هناك ملف بعيد عن الأيادي السعودية ( فلسطين ولبنان واليمن حتى الملف السوداني) والفرق كبيرأن يكون التحرك المصري منطلقًا ونابعًا من القناعات المصرية، وبين العمل في ضوء خريطة الطريق السعودية في المنطقة.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :