بقلم: جرجس بشرى
الكتاب الذي نتناوله بالعرض الآن يُعد من أهم الكتب التي من المُمكن أن يرجع إليه الباحث في تاريخ مصر القديم والحديث لإعتماد كاتبه على العديد من المراجع التاريخية لتوثيق كل ما جاء بالكتاب توثيقًا دقيقًا، ويسرد كتاب "مصر الحضارة 2500 سنة إحتلال" لمؤلفه المؤرخ "علي ياسين" تاريخ مصر بدءًا من عصر ما قبل الأسرات، ليؤكد الكاتب على حقيقة هامة وهي أن سنوات إحتلال مصر بلغت ما يقرب من 2500 سنة، وأن الإحتلال بدأ من عام 525 ( قبل الميلاد) إلى عام 332 ق م على يد دولة فارس.
 
وقد تخللت هذه الفترة فترة زمنية لا تتعدى سبعون عامًا تمتعت فيها مصر بالحكم الوطني، ثم تطرق الكاتب إلى أوضاع الدولة المصرية القديمة في عصر الإسكندر والبطالمة، ثم الحكم الروماني الذي إستمر من عام 30ق م إلى 643 م مرورًا بعصور الخلافة الإسلامية والمماليك والعثمانيون ثم الحملة الفرنسية وفترات الإحتلال الأجنبي لمصر.غلاف الكتاب
وفيما يختص بالفتح العربي لمصر أكد الكاتب في كتابه "أن دخول العرب إلى مصر كان إحتلالاً وغزوًا ولأجل نهب ثرواتها وخيراتها ولم يكن الفتح بغرض الدعوة إلى الإسلام كما يدعي البعض، لدرجة أن قال الكاتب في صفحة 186من الكتاب مستندًاعلى كلام النيقوس الذي كان حاكمًا مفوضًا من قبل المقوقس شمال مصر، دخل المسلمون نيقوس وإحتلوها ولم يجدوا فيها أحد من المحاربين، وكانوا يقتلون كل من وجدوه في الطريق وفي الكنائس رجالاً ونساءًا وأطفالاً، ولم يشفقوا على أحد، ولا يستطاع الحديث عن الإساءات التي عملها المسلمون حين إستولوا على جزيرة نيقوس ــ قويسنا حاليًاــ بمصر"

كما أنه من بعد أشهر من حصار العرب للإسكندرية أسقطوا سور المدينة وإستولوا عليها في الحال وقتلوا آلاف من أهل المدينة وأسروا النساء والأطفال، كما وثق المؤلف في كتابه "الجزية" التي فرضها الجيش العربي على المصريين بعد إحتلاله لأرضهم بقوله "ويذكر المؤرخون العرب أنه عند دخول عمرو الإسكندرية كان عدد سكانها المستحق عليهم الجزية 600 ألف رجل عدا النساء والصبيان والأطفال أقل من 12 سنة، والشيوخ أكبر من 60 سنة، وإن عدد سكان الإسكندرية كان مليون ونصف المليون مواطن، كما فرض العرب على اليهود المصريين في الإسكندرية الجزية وذلك إستنادًا إلى قول جلال الدين السيوطي "لقد فُتحت علينا مدينة الإسكندرية وفيها 40ألف يهودي تحق عليهم الجزية.
وأكد الكاتب بالتوثيق التاريخي على أن فتح العرب لمصر تسبب في خسائر فادحة للمصريين وخلف ورائه كثيرًا من الضحايا بقوله   يقول النيقوسي: إستولى المسلمون على كل بلاد مصر جنوبًا وشمالاً وضاعفوا عليهم الضرائب ثلاثة أمثال، وأضاف الكاتب: كما أن عمرو بن العاص فرض على المصريين ضيافة الجنود العرب عند مرورهم على المدن والقرى وذلك لمدة ثلاثة أيام، كما أحصى الجنود المسلمين فألزم جميع أهل مصر بمنح كل منهم (جبة صوف وبُرنس وعمامة وسروال وخفين كل عام)!.

كما كان عمرو بن العاص يطلب من جنوده أثناء مرورهم على القرى المصرية إحضار الهدايا لأطفالهم، مع تسمين خيولهم وكان يعاقب لو عادت الخيول متعبة أو متوعكة، وبالإضافة إلى الجزية والخراج وضيافة ثلاثة أيام، أعلن عمرو بن العاص للمصريين قائلاً  "والله لو أحد منكم كتمني كنزًا يُخفيه لقتلته"!!
كما يذكر المقريزي والسيوطي وأبن الحكم "مؤرخون مسلمون" أن عمرو قبض على رجل إسمه بطرس علم من البعض أنه يخفي كنزًا وحاول عمرو بالترهيب والوعيد أن يجعل بطرس يعترف بمكان الكنز فأنكر الرجل ملكيته لأي كنز، فحبسه عمرو بن العاص وجعل عليه بعض العيون لتراقبه وترصد حديثه وكلماته لزائريه من الأهل، فعرف أن بطرس يعرف راهب في دير المحرق فأرسل إلى الرجل رسالة وعليها ختم بطرس بأن يرسل الأمانة التي لديه، فأرسل له الراهب خريطة وورقة مكتوب فيها توجد الأمانة في فسقية دار مهجورة، فحفر بن العاص الفسقية وأخرج منها الكنز، ثم قام بقتل بطرس هذا، ويذكر المؤرخون العرب أنه من يوم هذا الحادث قدم أهل مصر الكنوز التي يخفوها إلى عمرو بن العاص خوفًا من القتل.

ويؤكد المقريزي والسيوطي والمسعودي على أن عمرو بن العاص عندما حضرته الوفاة خلف "ترك" من الذهب سبعين رقبة جمل مملوءة ذهبًا، وسبعين بُهارًا دنانير(والبهار هو جلد الثور المملوءة)، بخلاف قصر في الشام ومزارع في الطائف وغيرها، غير آلاف الدراهم، ويقول المقريزي أن حكام مصر من حُكم عمرو بن العاص وحتى عصره كانوا يتركون ثروات طائلة لا حصر لها  
وقال المؤلف: وإذا أضفنا إلى ثروة عمرو بن العاص ثروات القادة الكبار الذين شاركوا في فتح مصر (ومنهم الزبير بن العوام الذي ترك وراءه  ألف دينار وألف جارية خلاف الضياع والقصور وكانت ثروته الضخمة بسبب ما صولح عليه لإصراره على تقسيم مصر على المسلمين والقادة فأعطاه عمرو بن العاص مالاً حتى يرجع عن غرضه)، كما إستطرد علي ياسين قائلاً: "ويبدو أن هذه الثروات التي جمعها القادة والتي عرضنا مجرد نماذج لا تتعدى مجرد المثال قد إنهكت مصر، فقد وقعت في قلب عمرو بن العاص الشفقة فتأخر في إرسال الجزية وأمهل أهل مصر فترة حتى يستطيعوا دفع الجزية والخراج -ضريبة على الارض-  بعد الإنهاك الذي حدث للمصريين من الحرب والنهب، إلا أن الخليفة عمرو بن الخطاب قد أرسل له يؤنبه على هذا التأخير لدرجة أن عمرو بن العاص بعث برسالة لعمرو بن الخطاب قال له "لقد ذكرتني أن النهر يخرج الدُر فحلبتها حلبًا"!!!

كما أشار الكتاب إلى الخسارة الفادحة أيضًا التي لحقت بالمصريين على أيدي الرومان، كما يذكر المؤلف أن الخليفة الأموي "مروان بن محمد" أرسل جزء من جيشه إلى الإسكندرية وعندما ثار القبط في رشيد أرسل لهم جيش وحدثت مذبحة لأهل رشيد ولم يترك مروان مدينة العرب العتيدة الفسطاط فقام بحرقها بعد أن أعطى لاهلها فرصة ثلاثة أيام للخروج منها، وعندما عاد وجد بعض الشيوخ والعجزة وأصحاب العاهات فحرق المدينة ولم يشفق على ضعفائها وتعالت السنة النيران في شون الغلال التي جمعها العرب من شقاء وتعب المصريين.
كما قام مروان بحبس بطريرك المصريين وبعض رجال الكنيسة وحاول قتلهم إلا أن رجاله نصحوه بعدم تنفيذ القرار فربما تستدعي الظروف أن يلجئوا إلى ملك النوبة وهو من أتباع كنيسة الإسكندرية، وهكذا تنهي خلافة دولة بني أمية ويعقبها إحتلال العباسيين لمصر.

أما عن خلافة الحاكم بأمر الله لمصر فقد أشار المؤلف إلى أن الحاكم بأمر الله منع إستخدام اللغة القبطية في الصلاة داخل الكنيسة وإستبدالها بالعربية، وأن الأقباط في عهده قد عانوا في صلواتهم فكانوا يصلون في رعب من إحتمال هجوم جنود الحاكم على الكنائس أثناء الصلاة، وقد تكرر هذا كثيرًا وكان يقطع لسان كل من يجده يتحدث باللسان القبطي، وكان هذا الأمر من أكثر العوامل التي أضعفت اللغة القبطية من ذاكرة الشعب القبطي، وإن بقت العديد من مفرداتها إلى وقتنا الحالي ، وأوضح المؤلف أن المحتلين إهتموا بجعل اللغة العربية لغة القبط في مصر، بإستخدامها في دواوين الحكومة وأن الموظفون الأقباط قد تعلموا اللغة العربية خوفًا على وظائفهم كصيارفة ومساحين للأرض، كما أن كتاتيب الكنيسة القبطية أضافت اللغة العربية إلى القبطية، وأن اللغة العربية بدأت رحلتها داخل العقل المصري بعد اللغة القبطية، مؤكدًا أن تعليم اللغة العربية وفرضها بالقسر قد بدأ مع خلافة الحاكم بأمر الله الفاطمي (الذي أمر بقطع لسان كل من يتحدث غير  العربية) وأصبحت الكنائس المصرية في عهده تسدل السواد على أبوابها خوفًا من جنود الحاكم الذين كانوا يداهمون الكنائس والبيوت ليقوموا بقطع ألسنة المتحدثين باللغة القبطية.

إن الكتاب بحق مرجع واف وموثق لمن يرد الإضطلاع على التاريخ المصري خلال 2500 سنة والعادات والعلوم والحالة المصرية الإقتصادية والإجتماعية والسياسية في كل فترة من فترات الحكم، إنه بحق كتاب يستحق الإشادة به وبمؤلفه.