دخل الأب الحضانة في أحد أرقى الأماكن السكنية بالقاهرة، ليجد ابنته ذات العامين والنصف منعزلة في نهاية الفصل تجلس إلى طاولة بمفردها، وباقي الأطفال يجلسون معًا إلى طاولة أخرى، وعند السؤال عن السبب كان الرد أن باقي الأطفال يدرسون مادة الدين !
 
لا نحتاج إلى باقي القصة في شيء، ولا نحتاج إلى أن نعرف عن طبيعة التعليم في المؤسسة ولا عما حدث بعدها ولا قبلها، ما نحتاج إليه أن نلقي الضوء على الإطار التربوي السوي والصحيح للمؤسسات التعليمية لمرحلة الطفولة المبكرة، وأهميته في تطوير وتعزيز تربية الأطفال منذ الولادة إلى سن خمس سنوات حتى مرحلة الانتقال إلى المدارس.
 
إن الإطار السلوكي السائد في مجتمعاتنا العربية حول الاهتمام بتنشئة الطفل وإعداده لبلوغ مرتبة دينية عالية، على حساب جودة عالية في التربية والتعلُّم، وما تقوم به بعض المؤسسات التعليمية من نقل قضايا حياتية ذات مرجعية دينية قد تكون تواجهنا نحن وليس الطفل، ونعتقد أنها تشكِّل قوام سلوكه في الحياة، كل هذا يحتاج إلى مراجعة مع الاستعانة بدراسات وأبحاث سابقة من قِبل أكاديميين في مجال تعليم الأطفال.
 
تظهر رؤية الحكومات في الدول المتقدمة فيما يحظى به جميع الأطفال في بداية حياتهم من أجل بناء مستقبل أفضل لهم وللأمة بكاملها، ويعتمد على حقائق علمية تفيد أن مرحلة الطفولة المبكرة مرحلة أساسية حيوية في تعلُّم ونمو الأطفال، لذا يُطَوَّر بمساهمة ضخمة من قِبل قطاع التربية والتعليم ومن قِبل أكاديميين في مجال تعليم الأطفال ومن الحكومة بشكل مباشر.
 
ولهذا تهتم جميع الدول المتقدمة بمراكز ومرافق تعليم ورعاية الأطفال، وتحرص على أن تكون على جودة عالية في التعليم والتعلُّم، وترتكز على نحو خاص على التعلُّم القائم على اللعب، وتقدِّر أهمية اللغة والتواصل (بما في ذلك القراءة والكتابة والرياضيات لسنوات الطفولة المبكرة)، وأهمية النمو العاطفي والاجتماعي، حتى تتم الاستفادة من خلال المدرسين في مجال الطفولة المبكرة والعاملين مع الأسر الذين هم بمثابة المدرسين الأوائل والأكثر تأثيرًا في الأطفال عن طريق ممارساتهم اليومية، على أن يعزز المربون في مرحلة الطفولة المبكرة المبادئ الأساسية لحقوق الأطفال، ومن أهمها أنه يحق لجميع الأطفال الحصول على تربية وتعليم بجودة تكفي لتضع أساسًا جيدًا لحياتهم القادمة بكاملها، وتعظِّم من قدراتهم وتحترم أسرهم وثقافتهم وهويتهم ولغتهم.
 
أتصور أننا نحتاج إلى تغيير جذري في البنية الفكرية لعقلية المربي العربي، وتكون الأولوية ببناء منظومة قيم المواطنة والعيش المشترك، وأن يدرك المربُّون في تنشئتهم أنه قبل التنشئة الدينية الصالحة وقبل الإخلاص في الطاعة من حق جميع الأطفال أن يلعبوا، وأن يكونوا مشاركين فاعلين في جميع المسائل التي تؤثر في حياتهم.
 
وهذا لا يعارض تعليم الطفل النصوص والطقوس الدينية منذ طفولته المبكرة، لكنه يعني ألا تصبح الأديان سببًا في الفصل بين الأطفال وتعليمهم الاختلاف منذ الصغر، فالحياة كفيلة بأن تفعل ذلك معهم عندما يكبرون، لكن من حقهم علينا أن نترك لهم طفولتهم بريئة نقية كما خلقهم الله، ومن واجب المؤسسات التعليمية التي تُعنى بهم في تلك السن المبكرة أن تساعدهم على عيش أيام لا يشغلهم فيها سوى اللهو والمرح واكتشاف أنفسهم والحياة، وأن يفهموا أن الأديان لم توجد لتفسد الحياة بل لتصلحها وتعيننا على احتمال مصاعبها.