د.عبدالخالق حسين
استلمت إيميل مختصر مفيد من صديق عزيز مستفسراً: ((احد اصدقاءنا سألني سؤال أريدك أن تجاوب عليه: "ما هي قصة عبد الخالق حسين؟ لماذا يساند أحزاب الإسلام السياسي ضد المتظاهرين؟"))
 
فأجبته على استعجال وباختصار شديد، ولكن سؤاله أوحى لي بهذا المقال مشكوراً فيه الجواب مفصلاً. فالصديق مؤمن إيماناً عميقاً بأن هذه التظاهرات فعلاً عفوية، ومن انتاج جيل جديد لم يتلوّث بأيديولوجية البعث، ولا للبعث، أو أية جهة خارجية يد فيها. وبدوري، أؤكد للصديق أنه لو كانت هذه المظاهرات حقاً كما وصفها، لما ترددتُ لحظة واحدة في دعمها بكل ما أوتيت من قوة. 
 
كما أود أن أوضح موقفي مرة أخرى، أني لست ضد المظاهرات السلمية، فهي حق مشروع كفله الدستور، ومصدر اعتزاز بالديمقراطية، ولكني ضد أعمال العنف، والملثمين، والقناصة، وإشعال الحرائق، وتدمير مباني الحكومات المحلية، وتعطيل الخدمات وغيرها كثير، ومن أية جهة صدرت هذه الأعمال التخريبية. وقد وضحتُ رأيي ودعمي للتظاهرات السلمية في مقالي الموسوم: (لتكن تظاهرة البصرة السلمية نموذجاً يحتذى به)(1).
 
ولكن في اعتقادي أنه تم اختطاف هذه المظاهرات المشروعة من قبل أعتى الأشرار الذين يتربصون بالعراق سوءً وشراً، ولا يريدون له أن يتعافى وينهض إطلاقاُ. وعلى سبيل المثال لا الحصر من الأعمال التخريبية، نشرت صحيفة البي بي سي الإلكترونية تقريراً بعنوان: (مظاهرات العراق: مواجهات بين المحتجين وقوات الأمن وإغلاق الطرق المؤدية لميناء "أم قصر")(2)
 
وتأكيداً لتقرير بي بي سي، وصلني تعليق من أحد الأخوة القراء بما يلي: ((قامت مجموعة من عمال ميناء أم قصر بإغلاق البوابات أمام حركة مرور الناقلات، فأثير نقاش على احد المواقع الإلكترونية عن هذا العمل: هل هو مسؤول ام لا؟ كون هذا الميناء يشكل عصب وشريان الحياة للعراق. طبعا الأغلبية الساحقة أيدت العمل معتبرةً إياه عملًا "ثوريًا"!)). ويضيف الأخ القارئ: (انا كتبت هذه الأسطر التي ربما تعكس رأيي بما يجري هذه الأيام: ((نستالجيا ماسوخية لأيام حصار التسعينات ومعاناتها الحقيقية!! الظاهر أن الشعب نسي تلك الأيام، وهاهو يريد ان يكررها. جلد الذات عادة رافيدينية قديمة!)) انتهى.
 
أتفق مع تعليق الصديق، فهذه الأعمال على الضد من التظاهرات السلمية، يراد بها حرق العراق لا التخلص من الفساد. كذلك قرأنا أن قامت عصابات بتخريب الكاميرات الأمنية المنصوبة في المناطق التجارية في بغداد، تحسباً لإسقاط الحكومة، وخلق فراغ أمني للقيام بالفرهود كما حصل بعد سقوط الصنم البعثي عام 2003.
 
فهناك حملة مكثفة من قبل بعض الكتاب، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلبهم لم نسمع بهم من قبل (أي بأسماء مستعارة)، يركزون بضراوة على تبرئة البعث، والسعودية، وإسرائيل، وأمريكا من هذه المظاهرات، وأن هذه الاتهامات مثيرة للسخرية (كذا)، ويتهموننا بأننا مصابون بهوس (نظرية المؤامرة). في الحقيقة هم مصابون بهوس (عدم وجود المؤامرة)، لتبرئة التآمر والتغطية على المتآمرين. ودليلنا على وجود التآمر الخارجي هو الحملة الإعلامية من هذه الدول تطالب بإقالة رئيس الوزراء وحكومته، وآخر هذه المناشدات جاءت من وزير خارجية أمريكا، مايك بوبيو. فهل هذا الدعم
 
للتظاهرات من هذه الدول لوجه الله؟
وعن دور البعث في تخريب التظاهرات، علق صديق وهو أديب وشاعر مرموق قائلاً: "من يتصور بأن النار التي تشب في بغداد هي  ثورة وطنية يقودها المخلصون فقط لبناء العراق، فهو إما خبيث او بسيط. من المستحيل أن يكون هذا الهرج كله من شباب ثوري يدافع عن وطنه. ومن الغباء من يتصور بأن البعثييين مجرد متفرجين او قابعين لا ناقة لهم ولا بعير بكل ما يحصل في بغداد. لا مراء بأن البعث كان وسيبقى ذئباً شرساً ينتظر أية فرصة للهجوم والإفتراس. فهل من المعقول أن يكون البعثيون متفرجين وهم يتربصون لكل فرصة تسنح لهم للعودة الى الحكم بمنتهى الشراسة؟" انتهى
وفي هذا الخصوص، ندعو القراء الكرام قراءة تقرير صحيفة الأخبار اللبنانية بعنوان (الرواية الأمنية الكاملة لتظاهرات العراق: مخطّط انتقامي ترعاه واشنطن وأبو ظبي وتموّله الرياض!)(3)
 
كما جاء رد فاحم في مقال بعنوان: (حزب البعث يقود الاحتجاجات في العراق)(4) وبغض النظر عن مصدره، فهذا المقال يكشف بالحقائق الدامغة تاريخ البعث وحيله وأحابيله في اغتصاب السلطة عن طريق تسخير الآخرين، والصعود على أكتافهم، ومن ثم تصفيتهم. 
 
لا شك أن الديمقراطية هي المستهدفة، ويجب التخلص منها بأي ثمن، والعودة إلى حكم الاستبداد الفاشي. فما يجري في العراق منذ بدأ التظاهرات "العفوية" في الفاتح من أكتوبر الجاري، وما رافقها من أعمال عنف، غيَّرَ قناعات الكثيرين من المهتمين بالشأن العراقي، وبالأخص موضوعة الديمقراطية الوليدة. وأهم قناعة تعرضت لهذا الزلزال هي: هل حقاً الشعب العراقي مؤهل للديمقراطية؟ أم لا يصلح له إلا الحكم الدكتاتوري الفاشي، وبالقبضة الحديدية على غرار حكم البعث الصدامي؟ وفي هذه الحالة، إما فاشية دينية فاسدة منتخبة، أو فاشية قومية عروبية تغتصب السلطة بالانقلاب العسكري، كالفاشية البعثية التي ابتلى بها العراق منذ مجزرة 8 شباط 1963 إلى 2003؟
 
وكانت ولا زالت قناعتي الشخصية أن الشعب العراقي، كأي شعب آخر، لا يصلح له إلا النظام الديمقراطي. (راجع مقالنا: هل حقاً الشعب العراقي غير مؤهل للديمقراطية؟)(5). ولكن المظاهرات الأخيرة التي رافقتها أعمال عنف دفعتنا لإعادة النظر في هذا الموضوع.
 
فالشعب العراقي لم يجرب النظام الديمقراطي الحقيقي، ولم يعتاد عليها طوال تاريخه قبل 2003. وحتى النظام الملكي الذي يعتبره أنصاره أنه كان حكماً ديمقراطياً وليبرالياً، إلا إن تاريخ ذلك العهد يؤكد العكس، إذ كان ديمقراطياً بالاسم والمظهر، ودكتاتورياً إقطاعياً بالجوهر، وعلى سبيل المثال، كان كلما يُعيين رئيس وزراء جديد، يقوم بحل البرلمان وإعادة انتخابات شكلية جديدة، ورئيس الوزراء هو الذي يقرر الفائزين. فالشعب العراقي قفز من دكتاتورية صدام حسين إلى ديمقراطية سائبة بلا ضوابط بين عشية وضحاها، وبدون المرور بمرحلة انتقالية تمهيدية تهيئ الشعب للديمقراطية بانتقال سلس.
 
ولعل أشرف وأنزه حكم فردي (المستبد العادل) عرفه العراق هو حكم الزعيم عبدالكريم قاسم، (في الحقيقة لم يكن مستبداً بل أحاط نفسه بفريق من الوزراء أختارهم من أكفأ وأخلص وأنزه مسؤولين عراقيين)، الذي حقق إنجازات كبيرة خلال 4 سنوات ونصف من حكمه، ضعف ما حققه العهد الملكي خلال 38 سنة. وكان قد مهد لإقامة نظام ديمقراطي برلماني رئاسي، إلا إن القوميين العروبيين، من ناصريين وبعثيين، المعادين للديمقراطية ولقاسم، وبدعم من حكومات أجنبية لم يريدوا للعراق خيراً، لم يمهلوه، لعلمهم أنهم لم يفوزوا بالانتخابات، وأن الديمقراطية ليست في صالحهم. لذلك بسبب التدخلات الخارجية، ولتعددية مكونات الشعب العراقي، و تعقيدات تركيبته وثقافته الاجتماعية الموروثة، فشل الزعيم قاسم، وقُتِل مع رفاقه شر قتلة بحيث لم يحصل حتى على قبر يضم جسده الممزق برصاص الغدر من رفاق الأمس.
 
وخلال 35 سنة، قام حزب البعث الصدامي بحكم الشعب بالنار والحديد، وأعاد تشكيله وثقافته الاجتماعية بحيث لا يصلح له أي حكم إلا حكم البعث المستبد الجائر. أما النظام الديمقراطي فيصبح من المستحيلات، لذلك قال صدام وبثقة عالية (أن الذي يحكم العراق من بعده يستلمه أرضاً بلا بشر).  
 
فمن أول يوم من ولادة الديمقراطية بعد 2003، أطلقوا عليها أسماءً تسقيطية وتحقيرية مثل الديمقراطية العرجاء، والعوراء، والمستوردة، ونظام المحاصصة...الخ.  فهكذا شعب وبعد عقود من حكم الحزب الواحد، حصل فيه انفجار في تعددية الأحزاب، فاق عددها 700 حزب، أما تنظيمات المجتمع المدني، فقد فاقت رقم 7000، إضافة إلى حرية شتم المسؤولين وعلى مختلف المستويات. 
 
عجز الحكومة نتاج العداء بين الكتل السياسية
ونتيجة للخراب البشري صار أجهل تيار سياسي، والأشد خطراً على العراق و وحدته، هو الأكثر شعبية وفوزاً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وهو التيار الصدري الذي جاء بالمرتبة الأولى في المكون الشيعي، وحزب مسعود بارزاني في المكون الكردي، وكلاهما من ألد أعداء الوحدة الوطنية واستقرار العراق. وأكاد أجزم أن التيار الصدري الذي أغلب أعضائه من البعثيين الشيعة، يلعب دوراً كبيراً في تخريب المظاهرات الأخيرة بأعمال عنف، وحرق الإطارات في الشوارع، وتدمير مباني الحكومات المحلية، ومقرات الأحزاب السياسية باستثناء مقراته، وغيرها من أعمال عنف أدت إلى مقتل المئات، وإصابة الألوف من المتظاهرين، والمندسين، ورجال الأمن المسؤولين عن حماية أرواح الناس وممتلكاتهم. والسؤال هنا، إذا كانت هذه المظاهرات سلمية، فليت شعري كيف ستكون التظاهرات العنفية؟
ونتيجة للمنافسة الشرسة إلى حد العداء بين الكيانات المشاركة في العملية السياسية، على حساب المصلحة العامة، راحت الكتل البرلمانية تعارض أي مشروع عمراني تقترحه الحكومة، بذريعة أن التصويت على هذه المشاريع يستفيد منه رئيس الحكومة لأغراض انتخابية. وهكذا تم شل عمل الحكومات المتعاقبة، وتعطيل أغلب المشاريع الضرورية للشعب مما أدى إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية وتلكؤ الخدمات، وتفشي البطالة إلى حد الانفجار.
 
لماذا حصل الانفجار ضد حكومة عبدالمهدي؟ 
قد يبدو أنه من سوء حظ رئيس مجلس الوزراء الحالي السيد عادل عبدالمهدي أن تحصل المظاهرات في عهد حكومته، فالمشاكل التي باسمها حصلت التظاهرات لم تكن وليدة اللحظة، بل هي تراكمات ناتجة عن قصور الحكومات الخمسة السابقة خلال 16 سنة. ونحن لا نريد الدفاع عن السيد عبدالمهدي، ولكن بالتأكيد هناك من يبحث عن كبش فدى. 
 
السب الحقيقي لهذه المظاهرات، وكما يعتقد العديد من المحللين والكتاب السياسيين أنها ليست عفوية، ولا بالصدفة، بل خطط لها من قبل جهات دولية كبيرة، للتخلص من عبدالمهدي بسبب اتخاذه قرارات ليست في صالح أمريكا وإسرائيل والسعودية، مثل: عقد صفقات تقدر قيمتها بـ 500 مليار دولار مع الصين الشعبية لإعمار العراق على مدى عشر سنوات، تُدفع تكاليفها بالنفط وليس بالدولار، كذلك رفض عبدالمهدي ما يسمى بصفقة القرن لحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ورفضه تطبيق الحصار الاقتصادي على إيران عدوة إسرائيل وأمريكا، إضافة إلى تزامن هذه المظاهرات مع نقل الفريق عبدالوهاب الساعدي، ذي العلاقة الحميمة مع أمريكا من منصبه كقائد لقوات مكافحة الإرهاب إلى وزارة الدفاع في الأسبوع الذي سبق التظاهرات. (تقرير بي بي سي: من هو عبد الوهاب الساعدي الذي أثار جدلا في العراق؟)(6)
 
وفيما يخص فشل النظام الديمقراطي الذي أوصل العراق إلى طريق مسدود، راح بعض القياديين المشاركين البارزين في السلطة، يصرحون علناً بعدم جدوى الديمقراطية والبرلمان. وفي هذا الخصوص وعلى سبيل المثال لا الحصر، صرح زعيم ائتلاف "الفتح" في العراق، ثاني كتلة برلمانية، السيد هادي العامري قائلاً: "أن النظام البرلماني فشل بالبلاد، مشيرا إلى ضرورة إعادة صياغة العملية السياسية لنزع فتيل أزمة الاحتجاجات. وقال إن حل أزمة الاحتجاجات الحالية يكمن في "ضرورة إعادة صياغة العملية السياسية من جديد، تحت سقف الدستور، ومن خلال إجراء تعديلات دستورية جوهرية إلى نظام آخر يناسب وضعنا" وأضاف العامري: أن "الحكومات المحلية (مجالس المحافظات والمحافظين) هي الأخرى ثبت فشلها أيضا، ولابد من إلغاء مجالس المحافظات وأن يكون انتخاب المحافظ مباشرة من قبل الشعب".(7)
 
وماذا ما بعد الديمقراطية؟
والجدير بالذكر أن مطالبات المتظاهرين لم تتوقف عند الأهداف المشروعة المعلنة في بداية المظاهرات وهي: (محاربة الفساد، وتوفير الخدمات، والعمل للعاطلين)، بل تجاوزت إلى إسقاط الحكومة، وإلغاء البرلمان، والدستور، وكلما تحقق بعد 2003. وبعبارة أخرى، جميع ما طالب به حزب البعث الساقط. 
والسؤال هنا: من هو المخول لتشكيل الحكومة الجديدة في حالة إلغاء الدستور والبرلمان؟ وما هي شرعية تلك الجهة؟ 
في الحقيقة، هذه المطالب تعجيزية غير قابلة للتحقيق، وإذا ما تحققت، يعني العراق في خبر كان، عراق بلا حكومة، بلا برلمان وبلا دستور، وعندها تعم الفوضى العارمة، يعني سيادة شريعة الغاب، أي(الحق للأقوى)، واندلاع حروب أهلية طاحنة بين القوى الإسلامية من جهة، وبين البعث الداعشي، ومن ورائه من القوى الخارجية من جهة أخرى، ويدفع الشعب ألوف الضحايا، وملايين اللاجئين، وتدمير شامل للعراق، وبروز قوة منتصرة، وإعلان حكومة دكتاتورية، إما فاشية دينية، أو فاشية بعثية بصيغتها الجديدة، أي الداعشية الوهابية.
 
ولكن هناك سيناريو آخر، وهو طالما أن الغرض الرئيسي من كل هذه الاحتجاجات، وإغراق العراق في هذه الفوضى، هو ليس المطالب الثلاث المعلن عنها، بل إسقاط عبدالمهدي وحكومته، والمجيء برئيس وزراء جديد ترضى به أمريكا والسعودية، يقوم بإلغاء جميع العقود والاتفاقيات التي أبرمتها حكومة عبدالمهدي مع الصين وألمانيا وغيرهما، وتنفيذ السياسات الأمريكية في المنطقة بما فيها دعم ما يسمى بصفقة القرن لحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وحتى التطبيع مع إسرائيل ومعاداة إيران وسوريا وروسيا والصين.
 
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com