بقلم - أماني موسى
بدأت الولوج إلى عالم الصحافة منذ المرحلة الجامعية، حيث تدربت في إحدى الجرائد الورقية، وفي هذه الأثناء تعرفت على آراء العديد من الكتاب في قضايا محتمعنا والسياسة والشأن الخارجي أيضًا، اختلطت بأناس يحملون أفكارًا مختلفة عن المجتمع الموجود بالشارع والجامعة.

بدأت آفاقي الفكرية تتفتح وأدركت أن هناك آخر، وأن هذا العالم غير محدود في البشر وأفكارهم وتوجاتهم ومعتقداتهم، وأن أولى خطوات الحضارة هي التعايش، هي أن تقبل هذه الفكرة ثم تقبل هذا الآخر، طالما أنه لا يؤذيك، لم أنضم يومًا لثقافة التسليم بما هو سائد وموجود ومتاح، ولعل هذه النبتة التي كبرت جعلت من العقل جحيم على صاحبه، يدرك حجم الخراب المجتمعي المحيط به، غير راض عنه، لا يملك القدرة على تغييره!!! بات عقلي يتمسك تارة بالأمل في التغيير وتارة أخرى يفقد الدفة والأمل ويسلم ويستسلم في ساحات اليأس، دائمًا يمني نفسه بغد أفضل لا يأت.

ثم بدأت العمل بها منذ ما يقرب من 15 عامًا، وفي هذه الأثناء كنت قريبة من أحداث عديدة مرّت بها مصر، تنقلها للمشاهد أولاً بأول، تشعر بالحزن حينًا والخوف من المستقبل أحيان أخرى، والسخط في أحيان كثيرة، إلا أنني أبدًا لم أفقد حبي وانتمائي لهذا البلد، لم أكن أبدًا في فريق الأعداء الذين يحرضون ضدها أو يتمنون سقوطها، ولكن اليوم أجدني أفكر جديًا في هجرتها، رغم صعوبة هذا القرار فكأنه بالضبط عملية اقتلاع للجذور، هذا البلد الذي حوى مدرستك، مسكنك، أصدقائك وذكرياتك وجسد والدك، لكن كما قال جبران البعض نحبهم وهم في البعد أحلى، إذ يتأكد لك أنك لم تعد تنتمي إلى ناسه، تشعر بالاغتراب داخل وطنك، وهو أصعب من الغربة، فالغربة شعور واضح نتيجة وجودك في بلد ليست بلدك، مع أناس مختلفين عنك بالعادات، بالأفكار، باللغة، ويمكنك علاجه بعدة أمور، أما الاغتراب داخل الوطن لا أعرف له حلاً أو علاج، بل أنه قد يصيب بالاكتئاب في صورته المرضية وليست المجازية.

فتبدأ يومك في وطنك باختيار ملابس تناسب ذوق العامة، فلا يمكنك ارتداء ما تحبه وتجده مناسبًا لأفكارك، فالمرأة في مجتمعنا المتدين المحافظ لا يمكنها ارتداء فستان، لأنه تحول منذ سنوات من زي الأنثى إلى زي الفاجرة العاهرة المستباحة التي تريد من الرجال نظرات ولمسات لإطفاء شهوتها!!

لك أن تتخيل القارئ الكريم أن ارتداء "النصف كم" فسق ويجعل منك شخص مستباح للتحرش، لا يمكنك السير بهذا المظهر آمنًا في الشارع أو المواصلات العامة، فبمنطق الشارع، لماذا ترتدي زي كاشف عن نصف ذراعيك، لماذا تسدل شعرك هكذا؟ لماذا ترتدي فستان؟!! هذه دعوة منكِ للرجل كي يتحرش بك، فاضطررنا على مدار سنوات إلى مزيد من الغطاءات وفقط كشف الوجه والكفين حتى تكون بمأمن في الشارع الذي يمر بحالة هياج دائمة مستمرة، اضطررنا إلى اختراع نوعيات جديدة من الملابس لا تجدها إلا هنا، ترتديها للتغطية ويمكنك خلعها عن جسدك حين تتواجد بالمكان الذي تنوي الذهاب إليه!!

تبدأ مسيرة المعاناة كما ذكرنا منذ الصباح وبدء اليوم، ثم تسير بالشارع لتجد ما يسر العين والقلب من قمامة، عمارات شاهقة لا تدري من المسؤول عن السماح لأصحاب هذه العمائر بالوصول بها قرب السماء في شوارع ضيقة للغاية متكدسة بأكوام اللحم البشرية!!

وحتى حين تدفع كل ما تملك لتنتقل إلى مكان أرقى، تجد ذات الشيء، فالمسؤول عن الحي هناك هو نسخة كربونية من أخيه مسؤول الحي في المناطق الأخرى، فتجد أيضًا العمارات المخالفة تعلو وتزهو حد السماء، دون ضابط أو رابط، وحين تتوجه كمواطن شريف لمعبر رسمي للشكوى مثل تقديم الشكوى عبر مجلس الوزراء وغيره لا تجد رد، فمشكلتك كمواطن لا تعني المسؤولين، وعلى المتضرر أن يخبط برأسه في أكبر حيط.

وكذا حين توجهت بعدد من الأسئلة عبر المنفذ الرسمي فيما يعرف باسم "اسأل الرئيس" قبيل مؤتمرات الشباب، لا تجد أي رد ولا أي حل، لا تجد غير ذلك الصوت السابق "اخبط راسك في الحيط"، وحين تجد مقهى مخالف في مدخل أحد العمارات وتفترش الرصيف والشارع وكأنه ملكيتها الخاصة، ويتناول مرتادوها ما لذ وطاب من المواد المخدرة التي تجعلهم في حالة بهجة وسرور، وتتقدم كمواطن شريف بالشكوى لرئيس الحي مرارًا وتكرارًا لا تجد غير الأذن الصماء، ولا يخفى عليك قارئنا الكريم البالوعات المفتوحة بالشوارع وتحصد الأرواح دون أيضًا ضابط أو رابط.

على الجانب الآخر تجد كل ما يشغل مسؤولينا الأفذاذ هو القضاء على الكلاب الضالة بالقتل والسم والضرب بالخرطوش، تعزيزًا لروح العنف والدموية بالمجتمع، ورفضًا للاستجابة لأية حلول علمية.

كثيرًا ما اتسأءل لماذا يحرص المسؤولين في بلدنا على اختراع العجلة، وقضاء الوقت والجهد والمال في العبث وفي الحلول غير المجدية، فبدلاً من إهدار الوقت والجهد والمال كان الأولى بهم النظر إلى تجربة الشعوب في القضاء على مشكلة ما، وكيف تم حلها، وكيف يمكن تطبيقها في مصر؟

منذ فترة حدث عطل بشاشة التلفزيون، فقمنا بالاتصال بالشركة المُصنّعة لإصلاح هذا العطل، وبعد أن تم الإبلاغ وجاء أحد الفنيين للمعاينة وأخذ 100 جنيه نظير هذه الزيارة، فوجئنا بعدها بأن الست المؤمنة التي تلقت الشكوى قامت بحذفها من على السيستم، ومن ثم لا وجود لهذه الشكوى، فقط لأجل أن تتقاسم الـ 100 جنيه مع زميلها دون علم الإدارة!!

وبعد فشل المحاولة من خلال المنفذ الشرعي للحل، توجهنا لأحد المحال التي يشتهر صاحبها بالتقوى والإيمان ولا يبرح القرآن محله، وعلامة الصلاة تتجلى بوضوح في منتصف رأسه، وتم إعطاءه الشاشة للإصلاح، وقام بسرقتنا واستبدال كل قطع الغيار بها بأخرى غير سليمة، وحين كنا نسأله من آن لآخر عن الشاشة، كان الرجل لا يعجز أبدًا عن اختراع قصص يستطيع أن يشارك بها في مهرجانات دولية للأدب القصصي!!!

تساءلت كمواطن شريف ماذا أفعل؟ هل هناك قانون يحمي المستهلك؟ هل هناك عُمّال مهرة في مصر أم أن جميعهم باتوا سائقي توكتوك؟ هل هناك أمل في استرداد الحق أم ترك العوض على الله لأني لن أتمكن من تعليم المواطنين الأمانة والشرف والضمير؟!!! هل هناك منفذ قانوني من خلاله يمكنني أخذ حقي من النصابين؟ الإجابة "لا".

هكذا الحال حين يعطل أحد أجهزة جسدك وتمرض، فإنك إن نجوت ستنجو بأعجوبة لا لكفاءة أو أمانة أو ضمير، نعيش في ستر الله ورحمته ألا يصيبنا بصعب عسير يجعلنا ننتظر رحمة من بشر لا يعرفونها.

ما طرحته بعضًا من كل، جزءًا مما يجيش به صدري، جعلني أتساءل: هل سنقضي ما تبقى من عمر نناقش ونلهث ونضيع العمر في بديهيات؟ هل هناك حلول سنراها قبل أن نغادر هذه الحياة، والإجابة بكل صدق وثقة "لا"، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

السماء لا تمطر معجزات على كسالي متجمدين في فريزر الجهل وانعدام الضمير، بل تسوقهم إلى مصيرهم الذي يستحقونه أن يكونوا مداس الشعوب والأمم، رابضين في مكانهم لا يتقدموا خطوة حتى يعودوا عشرة للوراء.

ربما الهجرة ستكون الملاذ الأخير ليس حبًا في الغربة واقتلاع الجذور، لكن لأن منحة الحياة لا تتكرر والعمر واحد وقصير مهما طال، ومن الصعب والظلم قضاءه محاربًا طوال الوقت، تبحث لك عن وطأة قدم وسط مجتمع تسوده البدائية وكأنه يخطو أولى خطواته نحو الحضارة وهذا الانتقال يتطلب قرونًا من الزمان تفوق عمرك المحدود.

الهرب من الوطن أملاً في حياة تحت مظلة قانون حقيقي مفعل، حين تواجه مشكلة كمواطن تشكو عبر المنافذ الرسمية فتجد من يسمعك، تقوم بما عليك من واجبات وتتلقى حقوقك دون غياب للقانون وتفعيل لقانون الغاب، أقلها ستحصل على أدنى حقوقك التي حرمت عليم في وطنك في ارتداء زيك الذي يناسبك دون استباحة وتحرش!!!