في الطابق الثالث من العقار رقم "25 أ" بالحي السويسري في منطقة الحي العاشر في مدينة نصر بالقاهرة، وبعد عدة طرقات متتالية يفتح الباب، وتظهر سيدة خمسينية مبللة عينيها بأثر البكاء طويلا، حينما تسألها "إيه طبيعة معرفتك بالشاب نادر محمد، خريج كلية الهندسة جامعة حلوان، والذي انتحر مساء أمس بعد أن ألقى نفسه من أعلى برج القاهرة؟"، فتأتي الإجابة فورية "ده زي ابني وعشرة ٢٦ سنة مع أمه، هادئ ومحترم ومتدين، أنا لحد اللحظة دي مصدقتش إنه انتحر وهانت عليه نفسه كدة".

السيدة "م"، الجارة الأقرب لأسرة الطالب المنتحر نادر محمد، لم تستوعب الخبر بعد، فعلى قدر الهدوء الذي يخيم على العقار رقم 25، تدور الأرض أسفل قدميها، ما زالت في طور ابتلاع الصدمة الأولى: "امبارح الساعة ٥ العصر كانت أمه قاعدة معايا وبتقولي إنها جت من برة وملقتش نادر موجود في البيت، كانت قلقانة عليه، لكنها ما تخيلتش إنه يكون عمل كدة في نفسه وهو لسه كان واكل معاها ونازل لطريقه".

أكثر من ٢٦ عاما هي المدة التي قضتها السيدة "م" في طابقها الثالث والسيدة والدة نادر في الطابق الأخير، حيث تتواجد شقته، وبطبيعة المنطقة التي يسكنون بها، لم يكن لهما اختلاط بسكان العقار إلا نادرا، حيث تؤكد السيدة "م" أن أغلب الشقق إيجار مفروش، ولكن هذه العادة المتأصلة في معظم هذه الأحياء لم تثنها عن أن تكون الصديقة المقربة لوالدة نادر، "نادر اتولد هنا واتربى هنا أنا جيت بعدهم بسنة، ومن وقتها وإحنا أصحاب هو أبوه توفي، وأخوه وأخته تزوجوا، وعايش مع أمه لوحدهم في الشقة".

تغالب السيدة "م" دمعة أخرى لتسقط بينما تتحدث عن المنشور الذي كتبه نادر أمس في نحو الرابعة والنصف عصرا، ساردا فيه ما يمر به في حياته من أزمات وعزمه على الانتحار، "أنا شفت البوست فكرت هزار وبس مفيش حاجة من دي هتحصل، لقيته كانت لهذه الأسباب سأنتحر، كذبت عيني".

في جانب آخر وبالعقار نفسه، يبدو أن شدة الخصوصية وعدم الاختلاط الكبيرين اللذين يسيطران على طبيعة العلاقة بين سكان العقار، جعلت الخبر يقع كالصاعقة على رؤوس البعض، فـ"أبو أمير"، أفغاني الجنسية، والذي يعمل موظفا في السفارة الأفغانية بالقاهرة، تلقى نبأ انتحار جاره في الشقة العلوية منا في الحال، لم يكن يعلمه قبل، "أنا شفت بوست على فيس بوك إنه فيه ولد انتحر، لكن ما تخيلت إنه يكون نادر أبدا أبدا".

علاقة أبو أمير بنادر كانت محدودة للغاية، حدودها إلقاء السلام والتحية بين الحين والآخر، "ما كان بيننا هو السلام والتحية، وكنت أحترمه جدا لأنه هادئ ومحترم، وما سبق له أية عداوات مع سكان العمارة منذ أن سكنتها منذ ٣ سنوات".


وكانت تحريات النيابة قد أشارت إلى أن الشاب يدعى نادر محمد جميل، مقيم بمدينة نصر، وتخرج العام الماضي في قسم الهندسة الطبية بجامعة حلوان.

واستمعت النيابة لأقوال أسرة الشاب المنتحر من أعلى برج القاهرة، والشاهد الرئيسي للواقعة.

وكانت النيابة قد أمرت بنقل الجثة إلى مشرحة زينهم لتشريحها والتصريح بدفنها.

وكشفت مناظرة جثة الشاب المنتحر وجود كسور في أنحاء متفرقة من جسده ونزيف داخلى أودى بحياته.

وقالت التحريات: إن الشاب يعاني من حالة نفسية سيئة منذ فترة، وأنه أبلغ صديقه قبل أيام نيته الانتحار، لكن صديقه أخذها على محمل المزحة ولم يكن يعلم أنه ينوي الانتحار فعلا.

وأشارت التحريات إلى أن الشاب المنتحر توجه بصحبة صديقه إلى برج القاهرة، وأثناء تواجدهما غافله وصعد البرج وقام بإلقاء نفسه.