معاوية بن أبى سفيان لما تولى الخلافة فى دمشق، كان أشد ما يؤرقه معارضة أنصار على وشيعته فى العراق، فكان يختار لها من ولاته من هم أشد منه بطشا وقوة، وكان للعراق النصيب الأوفى من الظلم والتعذيب فى عهد الأمويين وأبناء عمومتهم العباسيين، وكان لرجال الدين وفقهائه ومشايخه وجلسائه، فى الخلافتين الحق المطلق فى الحكم الشرعى على المعارضين سياسيا على أنهم ملحدون أو مرتدون أو زنادقة، ليكون لقتلهم أوتعذيبهم أو الحجر عليهم مبرر شرعى لدى العامة والدهماء.

ومن تاريخ معاوية حتى الآن أصبح لرجال الدين اليد الطولى على أصحاب الفكر والعقل والمعارضين، فقتل الخلفاء الملايين منهم، تحت دعاوى الردة والزندقة وهدم ثوابت الدين، ولم يكن الأمر أكثر من اجتهاد يرفضه المشايخ والفقهاء استعلاءً وإستكبارًا واحتكارا للعلم، وهو حق الجميع وسلطة العقل وليس سواه.

وكان لهذا الوالى الشرس «زياد بن أبيه» وهو والى معاوية على الكوفة والبصرة الفضل الأكبر فى تعليم كل الولاة فنون القهر والتعذيب باسم الدين، انتقاما من أصحاب الفكر والعقل والمجددين، وليس فى أمور السياسة فقط، فهو وخليفته يعلمان تماما أن مدخل الدين هو مدخل السياسة، وإذا خاف الناس المشايخ من التجديد، خافوا أكثر من الخلفاء والأمراء من التغيير، فهم أكثر منهم بطشا وظلما على من يحاول سلب سلطتهم وسلطانهم، فقد بدأها الوالى «زياد» بقطع ألسنة كل أصحاب الفكر والاجتهاد، وكان يعلم أن ضرب المربوط يخيف السائب، وأصحاب الفكر والمجددون أضعف من المعارضين وأقل بأسا وصبرا، وكان أول ضحاياه رشيد الهجرى، ولم يكن الأمر قد وصل بعد إلى قصف الأقلام، فكان هذا الوالى لا يحمل نفسه عناء قصفها وخلعها، انتظارا لقطع الألسنة، وقد كانت الأسهل على سيفه، ولم تكن الكتابة كالخطابة، الخطابة لها سلطان على خلق الله، وليس الأمر كما الآن، سيف الكتابة أبتر وأشد فتكا وتأثيرا. واتحدت مصالح الطرفين، فلا حكم بغير الدين، ولا دين بغير سلطان يحميه، ثم جاء تلميذه النجيب الذى تفوق عليه فى فنون التعذيب وهو الحجاج بن يوسف الثقفى الذى قطع الرؤوس، فكان الجسد بلا قلم أو لسان أو رأس، وكان الأمر أسهل وأيسر وأسرع. وإياك تحسب أن الولاة والأمراء كانوا يفرقون بين المعارضة السياسية وبين الاجتهاد فى الدين، فكلاهما مفتوح على الآخر، والعقل هو الحكم بينهما رفضا أو قبولا، ولهذا اتفقت مصالح الطرفين الأمراء والفقهاء، فصبغوا السياسة بالدين، وجعلوا الخروج على الحاكم خروجا على الدين، والاجتهاد هدما لثوابت الدين، وشقا لعصا الطاعة وخروجا على الجماعة، فضاعت معالم الفكر، وتاهت الأمة بين عصا الحاكم وعصا الشرع، واقتسم الولاة والفقهاء كراسىّ الحكم، واعتلوا رقاب العباد، وسخر كل منهما الآخر لمصلحته، فعلا شأن رجال الدين والحكام، وأصبحا فى رباط إلى يوم الدين.

ولم يكن الحلاج مظلوم الفكر إلا صورة من صور القهر والخرس الذى يواجه كل المثقفين والتنويرين ومطاردتهم بالحبس أو قصف أقلامهم أو قطع ألسنتهم أو صلبهم، وما قاله الحلاج يفتح أبواب العقل على مصراعيها، ولا أدرى ما يخيف رجال الدين من الكتاب والمفكرين والعقل؟ إذا قالوا قولا هاجوا وماجوا وعادوا إلى أجدادهم قاطعى الألسنة والرقاب، فلماذا لا يتركون أمرهم لله يتحدثون معه، ويكشفون ما ستره القُصّاص والرواة من تاريخ مكسور وملفق، وهو دين الله يحميه ويذود عنه، فلا منع زياد الفكر بقطع الألسنة، ولا قطع الحجاج العقل بحش الرقاب، ولا خرست الكلمة، ولا مات الاجتهاد، بل يعلو الصراخ، ويلتف الناس يسمعون ويصدقون. (إلى خالد منتصر، صلب الحلاج منذ قرون وما زال هو الحق).
نقلا عن المصري اليوم