خالد عكاشة
«مخيم الهول» الواقع فى شمال سوريا، بالتحديد على مشارف بلدة الهول فى شرقى محافظة «الحسكة» السورية، ليس مخيماً جديداً جرى إنشاؤه مع بدء عمليات النزوح، التى واكبت وتنامت مع الاقتتال الداخلى السورى، ومن ثم بدأ يذاع صيته فى فصل متقدم من الحرب وهزيمة داعش، فهذا المخيم أنشأته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، بالتنسيق مع الحكومة السورية فى تسعينات القرن الماضى، حتى يجرى استيعاب آثار حرب الخليج آنذاك، فاستخدام تلك المنطقة السورية القريبة من الحدود العراقية، سمح باستقبال النازحين العراقيين والفلسطينيين الذين بلغ عددهم قرابة (15 ألف) شخص، ليقضوا فيه سنوات ليست بالقليلة، ساعدت الأمم المتحدة البعض منهم على الهجرة إلى مختلف أرجاء العالم، بينما ظلت غالبية أهالى القرى العراقية حتى سقوط نظام صدام حسين 2003، قبل أن يغادروه على دفعات عائدين إلى بلداتهم وقراهم على الجانب الآخر من الشريط الحدودى.

يعود «مخيم الهول» هذه المرة، ليحتل صدارة الاهتمام بالنسبة للمعنيين بقضايا الإرهاب على الأقل، وبعض من المراقبين وذوى الصلة، الذين يمكنهم ممارسة الفعل على الأرض فى تلك المنطقة الشائكة التى يقع بها المخيم، فالمشهد بطبيعته اختلف كلياً وجذرياً عما شهده تاريخ المخيم، فهو اليوم يضم عدد لاجئين يقترب من رقم (70 ألف شخص)، يتراوح عدد النساء فيهم إلى نحو (25 ألف امرأة وفتاة)، بينما يبلغ عدد الأطفال (45 ألف طفل) تقريباً. هذا الخزان البشرى الهائل تكون إثر هزيمة داعش فى معاركه الأخيرة أمام قوات التحالف الدولى، وبالأخص فى مواجهة قوات سوريا الديمقراطية الكردية «قسد»، كما تضم نفس المنطقة شبكة سجون مرتجلة، أودع فيها أكثر من (2000 مقاتل) داعشى، وأحد أبرز المهددات التى نجمت عن الانسحاب الأمريكى الأخير من الشمال السورى، أن قوات سوريا الديمقراطية تفتقر إلى موارد مالية وبشرية كافية لإدارة المخيم والسجون.

أدركت «داعش» مبكراً الأهمية الاستراتيجية لبلدة «الهول»، لذلك سارعت بالاستيلاء عليها والوجود فيها وفى محيطها بكثافة، بمجرد سيطرتها على محافظة «الحسكة»، وتشكلت عائلات كثيرة فى تلك المنطقة من زيجات مقاتلى التنظيم، وهذا يفسر وجود هذا العدد الهائل من النساء والأطفال، اللاتى لم يجدن مكاناً يذهبن إليه بعد هزيمة أزواجهن سوى الوجود فى هذا المخيم، حيث دعم المكون الكردى فى تلك المنطقة هذا التوجه، حتى لا تتسرب تلك العائلات الإرهابية إلى القرى والمناطق التى ظلت على قدر من الهشاشة، يصعب فيها السيطرة عليهم أو تقفى آثارهم ومتابعة نشاطاتهم، لكن مرور الزمن أوجد متغيرات بداخل المخيم، تتجاوز مجرد كونه مكاناً يوفر المأوى لبقايا هذه الأسر، حيث تحولت الحياة بالتدريج مع هذا العدد الضخم، إلى أن النساء الداعشيات تولين إنشاء «شرطة أخلاق» فى داخل المخيم، كاستنساخ لما كان يعرف فى المناطق التى سيطر عليها التنظيم بـ«جهاز الحسبة»، وفرضت تلك الشرطة النسخة الداعشية من الشريعة، للحد الذى ذهب بهن إلى تنفيذ عمليات تعذيب وإعدام، كما بدأ تنظيم «داعش» ينشط بصورة معلنة فى المخيم، ويكلف هؤلاء النسوة بتجنيد عناصر تابعة له، ويهرب بعد ذلك المقاتلين منه وإليه، ويتخذه مركزاً لتخطيط الهجمات الإرهابية فى أنحاء شمال سوريا.

صدر من البنتاجون الأمريكى تقرير فى فبراير 2019، قبل انتهاء العمليات الأساسية ضد «داعش» فى سوريا، حدد فيه أن الولايات المتحدة تراقب عن كثب الجهود التى يبذلها التنظيم فى تجديد مهامه وقدراته العسكرية والأمنية بشكل أسرع، لا سيما فى العراق. كما أشير فى ذات التقرير الذى لم تأخذ به الإدارة الأمريكية حينها، أن عودة التنظيم مرة ثانية مرتبط بالعديد من العوامل، على رأسها انسحاب أو تقليل وجودها العسكرى فى المنطقة، كما ذكر أن اعتقال الآلاف من المنتمين للتنظيم وعوائلهم، فى مراكز احتجاز خاصة دائمة ومؤقتة، يجعل الخطورة كامنة فى أن التأخير المتوقع بخصوص حل هذا الملف، نظراً لاختلاط قضية المقاتلين الأجانب مع الأخرى المتعلقة بالمحليين أبناء المناطق السورية والعراقية، سوف يساعد بالضرورة «داعش» داخل تلك المراكز للاحتجاز، بل قد يدفع أعضاء التنظيم إلى إخراج المقاتلين والقياديين التابعين له، سواء عبر عمليات مقايضة مالية، أو عبر هجمات مسلحة منتظمة فى مرحلة لاحقة، مثلما فعل فى العراق عندما هاجم مراكز الاحتجاز عام 2012، فيما عرف بخطة «هدم الأسوار». التقرير بدا وكأنه استشراف دقيق لما يجرى إنفاذه على الأرض اليوم، بعد نحو 10 أشهر من تحريره وتقديمه كتقدير موقف قبيل إيقاع الهزيمة الكاملة بالتنظيم، وقبل دخول تركيا على خط تقديم ضمانات بأنها قادرة على ضبط الأوضاع فى تلك المنطقة، وأنها تملك من القدرات الاستخباراتية والعسكرية ما يمكنها من إجهاض توقعات الخطر التى كان يسوقها العسكريون الأمريكيون فى حينه، وهذا ما دفعهم طوال شهور العام 2019 التى شهدت جولات ماراثونية من المفاوضات مع الجانب التركى، إلى أن يصلوا لقناعة مفادها أن النسخة الجديدة من «داعش» ربما لم تبصر النور بعد، ولكن الأمر لن يطول قبل بروزها. السيناتور الأمريكى «ليندسى جراهام»، أحد صقور الجمهوريين الذين عارضوا بشدة وبصورة معلنة، كافة الخطوات الأمريكية الأخيرة بشأن الشمال السورى وشرق الفرات، من الانسحاب أو تخفيف أو إعادة انتشار القوات العسكرية، وبعدها الاتفاق مع الجانب التركى على الأشكال المتنوعة التى طرحت بها «المنطقة الآمنة»، مع ما يصاحبها من وجود عسكرى تركى، وتسيير الدوريات الأمنية وخلافه، حيث ظل حديثه طوال الوقت يتقاطع مع الإدارة، ومع ما تعلن عنه عبر منصة الرئيس الإلكترونية «تويتر»، وتقترب أكثر من أطروحات الهواجس التى شغلت بال الأكراد وخبراء المنطقة الأصليين، فهو مؤخراً مثلاً ذكر أن «مخيم الهول» يتحول بوتيرة سريعة إلى «خلافة مصغرة»، فالإجراءات الأمنية المحيطة بهذا المخيم لا يعتد بها، خاصة أن أشباه داعش يديرون المخيم، على مرأى من الأمريكيين أو «تحت أنفهم» كما يقال!
نقلا عن الوطن