محمد حسين يونس
الشخص العادى يجلس في قاعة المسرح يستمع إلي الحان البالية أو الأوبرا أو السيموفونية أو الكونشرتو .. فينفعل .. و يطرب .. و يستمتع .. .. المثقف .. يعرف من أى عصر جاء ( باروك ، روكوكو ، رومانسي ، كلاسيك ، ) و ما نوعية اللحن وشكله (form ).. و المجتمع الذى يعبر عنه ( ديني ، إقطاعي ، ثورى ،متمرد ، راسمالي ) .. فالألحان و الرسومات و المنحوتات .. و المدن , العمارة .. و الملابس و الحلي .. تحكي للمثقف كلاما يخالف ما تتركه من إنطباعات لدى العامة .

قرأت حول ثمانينيات القرن الماضي كتاب هلين جاردنر الموسوعي
(الفن عبر العصور ) art through the ages حوالي 900 صفحة و 500 صورة أو لوحة و بيانات مقارنة خلال العصور عن الأعمال الفنية التي تعاصرت في شتي أنحاء العالم .. تبدأ الرحلة من عصر ما قبل التاريخ و تنتهي في زمننا .

خلال تصفحي للكتاب لم تغادرني أبدا الرغبة في ترجمة هذا الكنز للقارىء المصرى .. و لكن كان يحبطني أن قدر الجهد الذى سيبذل لا يتناسب مع المردود المادى أو الثقافي ..و أن إنتاجة ذو تكلفة مرتفعة ..فضلا عن نقص إهتمام المصريين بمثل هذه الأعمال .

الكتاب لأهميته كانت مؤلفته تعيد طباعتة مزودة إياه بما يستجد حتي توفت .. فقام فريق من الجامعة الأمريكية ( Yale ) بإستكمال المهمة بحيث كانت النسخة التي قرأتها تحتوى علي شروح لأخر الإبداعات العالمية .

ترجمة و طباعة مثل هذا الكتاب صفقة خاسرة .. بين مائة مليون مواطن .. لا يضع اغلبهم في منزلة لوحة أو تمثال حتي لو كان من النوع التجريدى .. إذا يعتبرها كفر و خروج عن الملة .. نحن نكرة الفنون .. و نهرب منها ( كأفراد و جماعات و مجتمع ) هروب من يحاول النجاة من النار .. رغم أن فنون أجدادنا لازالت مبهرة ... ورغم أنهم في ستينيات القرن الماضي أقاموا أكاديمية للفنون .. ضمت معاهد للبالية و الموسيقي و المسرح و السينما .. و لكن في الثمانينيات .. أصاب أهلها ما جعل شيخ جليل يحاضر طلابها فيقول لعازفي أوركسترا الكونسيرفتوار .. (( الموسيقي مزمار الشيطان )) ... و يخاف الطلاب في كلية الفنون بعد قرن من إنشائه أن يلتحقوا بقسم النحت .

البلاغة البشرية التي حدثنا عنها سلامة موسي .. هي إختيار الكلمات لتعبر عن المعني بدقة .. فإذا ما كان لها وزنا أصبحت شعرا .. فإذا ما كسرت القافية أصبحت شعرا منثورا ..

اللغة جميلة النطق و المختار معانيها بدقة .. هي سمة من سمات الثقافة .. فالانسان الذى لغته مشوشة أو غير معبرة أو يكملها بحركات يدية و وجهه وجسدة .. غير قادر علي الإبداع و يحتاج لمران طويل و تدريبب ليصبح مثقف الكلمات
.
منذ زمن ( جلجامش .. و إيزيس و أوزيريس ، و الإلياذة و الأوديسا ) و الإنسان تبهره الأسطورة .. و أحداثها الخيالية .. ثم جاءت كليلة و دمنة .. و الف ليلة و ليلة .. لتقدم سحرا جاذبا و ممتعا .. فالإنسان من خلال العفاريت .. و الجن يحقق في الحلم ما يعجز عن تحقيقة في الواقع ..

القص تطور عبر التاريخ .. قصص قدماء المصريين التي إختلطت بأساطير البابلية .. و الكلدانية .. و سافرت عبر المتوسط لكريت و اليونان جعلت من المزاج الثقافي للمنطقة طابعا .. يصعب تجاهله ..

القص الواقعي أو الأسطورى تحول في اليونان إلي مسرح ..لازلنا ليومنا هذا نستمتع بما أبدع سوفوكليس و يوربيدس و أسخيلوس ..و منها مسرحيات عرضها المسرح القومي مثل الضفادع .. و أنتيجونا .

المسرح في مصرالقديمة أخذ شكل بلاغة التعبير بالجسد عن طريق الرقص .. علي موسيقي للأسف نجهلها فلم تكن تكنيكيات التدوين معروفة ..

و لكن تشعر بها عندما تحركك دقات الزار و الحان المداحين و الموسيقي الكنسية .. و لا أريد أن أقول أنغام الأذان و تراتيل الصلوات كلها مصرية فأغضب البعض و يتركون كل الموضوع ليثيرون ذوابع أن التلاوات السبع للقرآن ليست مصرية الأصل .

المسرح ظل لفترة طويلة يعبر عن القص الديني .. ففي مولد أوزيريس كانت الكاهنات و الكهنة يرتدون أزياء إيزيس و نفتيس و ست و حورس ويقومون بتمثيل موته .. و قيامة .. و تولية حكم عالم (التوات ) تاركا الأرض لإبنة . هذة التقاليد المسرحية الدينية نجدها لدى العديد من المعاصرين و إن تنوعت الأسماء و الحكايات .

الموسيقي لها سحرها الخاص سواء كانت أنغام الحادى الذى يغني لجمله في قافلة تسير في الصحراء علي ضوء قمر .. أو ناى حزين يبكي علي شاطيء أو دفوف تعلن عن الفرح .. و قد تودع الموتي .. والإنسان كلما تقدم علي درب الثقافة .. كلما أصبحت لدية الموسيقي أكثر تركيبا ..

الموسيقي ببساطة هي إيقاع ( ريتم ) و لحن ( ميلودى ) كلما زاد الإيقاع علي اللحن كان العمل بدائيا .. إستمع لموسيقي شباب اليوم .. رقع و خبط .. و أرتام عالية .. لأنهم غير مثقفين .. إنهم نبت البيئة دون تهذيب .

في حين أن قبل اليوم بعقدين أو ثلاثة .. كانت الألحان العذبة تتغلب .. و الأرتام تصاحبها .. لقد كنا أفضل فلموسيقانا معالم و قوانين تسمي ((مقامات .. مثل سيكا و نهاوند و بياتي و كرد ... ))... ثم تدهورنا ...فلم نعد نتحرك إلا مع دقات الأرتام المجنونه .

عندما يقوم الأوركسترا بعزف أكثر من إيقاع بواسطة الأته المختلفة .. و تجدها جميلة فهو قد قام بعمل (هارموني) اى توافق أو (كونتر بوينت) أى تعارض مثل الألوان المتوافقة .. و الألوان المتضادة (أبيض و إسود ) ..التي لو صيغت بصورة جيدة أعطت جمالا ..

الألحان أيضا قد يعزف الأوركسترا أكثر من لحن متوافق أو متعارض معا ..تعطي ما يسمي (بالفورمد ميوزك ) الموسيقي ذات الشكل يسميها المتخصصون فورم (السوناتا) أو ( الروندو ) .. و هكذا ..

الموسيقي المركبة عادة ما تكون تون أو نصف تون .. و لم تعرف الربع تون إلا الموسيقي الشرقية .

المثقف هو الذى تعتاد أذنية علي سماع (الفورمد ميوزك) .. و يستمتع بها .. و قد يجد أن ما عداها من موسيقات الشعوب ..بدائيا يسمعه من باب التغيير .
.
جميع الفنون .. تأتي من نبع واحد .. و تتفرع إلي أنهر مستقلة .. و لكن كلها يجمعها ما يسمي بفلسفة الجمال .. أو قياسات الجمال .. (aesthetic) ستجد هذا في الشعر و القصة و المسرح و الموسيقي و الرسم و النحت و الحلي و الملابس و العمارة و الأثاث .. و كل مايستخدمه البشر . ( تعبتكم النهاردة نكمل الحديث باكر )