محمد حسين يونس
رغم كل القهر الذى زاوله المستعمرون علي أبناء مصر لالف سنة .. إلا أنها كانت بالنسبة لبدوى .. قادم من صحراء حضارية .. و فقر في الموارد الطبيعية ..وكفاح يومي من أجل شربة مياة أو مرعي لإبلة .. لغزا مبهرا .. بأثارها التي لا تعني له إلا كونها (برابي ) للسحرة .. و مبانيها الجريكو رومان التي تزين العاصمة الأسكندرية .. و نيلها دائم السريان .. ومواسم الزراعة و الحصاد .

لقد كان يدور علي الأرض المصرية نوع أخر من الحياة لا يألفة بدوى لم يغادر الصحراء إلا لماما . و هكذا كان لدية حلولا غريبة لادارة هؤلاء البشر الذين يعيشون بإسلوب مخالف لما إعتاد علية .

عندما انخفض النهر ذهب المصريون الى عمرو يطلبون التضحية بفتاة للنيل حتى يفيض فأرسل الى عمر بن الخطاب (( فلما وصل إليه وعلم ما فيه كتب بطاقة و أرسلها لعمرو و أمره أن يلقيها فى النيل ( بدلا عن الفتاة ) فلما وصلت إليه البطاقة فتحها وقرأ ما فيها فإذا مكتوب ( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب الى نيل مصر .. أما بعد فان كنت تجرى من قبلك فلا تجر وان كان الله الواحد القهار هو الذى يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك )).

يقول ابن اياس أن النيل ارتفع فى نفس اليوم 12 ذراعا بعد أن رمى عمرو فيه خطاب عمر بن الخطاب .

عمرو بن العاص عندما امتلك مصر .. وضع نظام حكم مماثلا لما كان علية في زمن المقوقس و سار عليه أغلب الولاة الذين حكموا من بعده ..

أخذ الخراج والجزية الفردية والجماعية الى مصادرة الأموال ( الكنوز ) والبحث عنها مع الأقباط وفى الآثار القديمة حتى لو قادهم هذا الى هدم الأهرامات والمعابد والمنارات.

(( ثم أن عمرو عندما استقر فى مدينة الفسطاط جمع القبط وقال لهم : من كان عنده كنز وكتمه عنى ضربت عنقه ...)) ...

(( فوجد مخبأه أسفل الفسقية فيها ذهب دنانير مسبوكة كعرمة القمح فنقله بالقفاف الى داره ثم أنه اكتال الربع فإذا هو اثنان وخمسون إردبا [ كما أورد إبراهيم بن وصيف شاه فى أخبار مصر ] .. ثم أن عمرا احضر بطرسا بين يديه وضرب عنقه بحضرة جماعة من القبط فلما رأوا ذلك صار كل من كان عنده كنز أحضره بين يدى عمرو وإلا صار مثل بطرس ))

يذكر إبن إياس (( أن عمرو بن العاص لما سلسل فى المرض وأشرف على الموت أحضر ما جمعه من أموال القبط لما فتح مصر وقال لولده عبد الله :إذا أنا مت فأردد هذه الأموال التى جمعتها الى أصحابها )).

فلما مات وسمع معاوية أرسل فأخذها قائلا (( نحن أحق بهذه الأموال لدفع العدو .. )) ((وكانت سبعين جرابا من جلد ثور كامل )) .

البعض أوحى لعمرو أن بأسفل منار الإسكندرية كنز
(( فأمر عمرو بهدم المنار وقلع المرآة التى كانت به فلما هدموه الى مقدار الثلث فلم يجدوا فيه شيئا من المال ... ثم شرع عمرو فى بناء ما هدم ووضع المرآة كما كانت أولا فبطل فعلها من حينئذ)).

سقطت هذه المنارة بعد ذلك أثر زلزال فى العصر الطولونى فى زمن هارون بن خمارويه.

وهكذا كان تصرف المأمون عندما دخل مصر ليخمد ثورة الشموريين ((فدخل عليه المال من هذه السرحة نحو أربعة الألف ألف ألف دينار ( أربعة مليارات ) غير الهدايا والتحف ففرق على عسكره لما رجع بغداد لكل واحد ملئ كفه ذهبا)) .

(( لما رأى المأمون الأهرامات أمر بفتح الهرم الأكبر فلما انتهى فيه الى عشرين ذراعا وجد هناك مظهره خضراء فيها ذهب مضروب زنة كل دينار أوقية وكان عددها ألف دينار ))

و هذا حدث أيضا فى زمن الفاطميين والأيوبيين والمماليك كما سيذكر فيما بعد بمعنى أن الولاة والخلفاء لم يتوانوا عن نهب ما تصل إليه أيديهم لا يختلف فى ذلك زيد عن عبيد.

لم تكن من أولويات عمرو ومن تبعه أن يغير أهل البلد من دينهم ويدخلون الإسلام ما دام بيت المال يمتليء بالجبايات .. ولم يتغير وضع المصرى الذى أسلم عن أخيه الذى لم يسلم فكلاهما كان مطالبا بأن يدفع.. خاصة أهل الإسكندرية والقرى المحيطة الذين عاقبهم عمرو على مناصرتهم للروم ومقاومتهم له عندما فتحها عنوة.

(( اجتمع رأى الصحابة على أن يفرضوا على كل رأس من القبط دينارين وليس على الشيخ الفانى ولا الصغير الذى لم يبلغ الحلم ولا على النساء شىء من الجزية ... و للمسلمين عليهم حق النزول والضيافة حيثما كانوا فى القرى مقدار ثلاثة أيام)).

(( والجزية كانت جزيتان)).. فجزية علي رؤوس الرجال ...وجزية أخرى (مجملة) تكون على أهل القرية ( جميعا ) فمن هلك منهم (علي الباقين دفع نصيبه )

بكلمات أخرى ..(( تصبح مسماه على القرية ليست على رؤوس الرجال )).. علي أساس أن الأرض كافرة و علي أصحابها دفع الجزية عنها حتي لو أسلموا جميعا

وكانت تؤخذ ممن لم يسلم و من أسلم كذلك و أول ..((من وضع الجزية عن من أسلم من أهل الذمة هو عمر بن عبد العزيز )) فقد كتب الى حيان بن سريج (( أن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فان الله تبارك وتعالى قال : فان تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فأخلوا سبيلهم .... )).. ثم عادت بعد وفاة عمر.

(( وكان هؤلاء الأمراء إذا تولوا يسمون عمال الخراج بمصر وكانت الخلفاء يشترطون عليهم فى كتب تقليدهم المال الذى يلتزمون به وعليهم الهدايا والتقادم : الخيول العربية والبغال الحبشية والجمال البجاوية والثياب الديبقية ومقاطع الشرب الاسكندرانية والطرز البهناسوية و إجلال الخيل والستور الفيومية وعسل النحل المصرى من عسل بنها وغير ذلك من الأصناف التى لا توجد الا بمصر )).

والسؤال الآن : هل اختلف سلوك العرب عن سلوك قمبيز عندما غزا الفرس مصر أو أباطرة روما بعد أن اندحرت كيلوباترا و أنطونيو .. أو ما حدث بعد ذلك عندما قضى سليم الأول على المماليك و احتل مصر.. لقد كانت سمة هذا الزمان .. ولم يختلف العرب فيها عن سواهم حتى وهم يحملون راية الإسلام !!.

المتأمل لصعود وسقوط الإمبراطورية الإغريقية ويقارنها بما حدث للعرب والتتار والرومان والترك وغيرها من إمبراطوريات الزمن القديم سيتخيل أن التاريخ يكرر نفسه بصورة أقرب الى قوانين الحتمية الطبيعية .

ففيليب المقدونى الذى وحد الشيع اليونانية المتحاربة المتصارعة تحت علم الفلسفة اليونانية والديموقراطية الأثينية لم يشهد نتاج هذه الوحدة وكيف أسس خليفته الاسكندر الأكبر إمبراطورية مترامية الأطراف .. عندما مات الاسكندر تقاسم الإمبراطورية قواده ثم بدأ التدهور المصاحب للرفاهية فالركود حتى قضى الرومان على الإمبراطورية الإغريقية وحلوا محلها .

العرب المتناحرون أيضا وحد بينهم الإسلام فقويت شوكتهم حتى نهاية حكم الخليفة الأول للرسول ليقوم الخليفة الثانى عمر بن الخطاب بما قام به الاسكندر فيؤسس إمبراطورية مترامية الأطراف تكاد تتطابق مع إمبراطورية أثينا .. عندما يُغتال عمر تتفتت الإمبراطورية بين الشيع المختلفة ويستقل البعض بولايات تتدهور بها مصادر القوة بعد تفشى الرفاهية والإسراف حتى يقضى عليها التتار ثم الأتراك بقيادة سليم الأول .

ماذا فعل الزمن بالعرب عبر 656 سنة منذ هجرة المسلمين الى المدينة حتى سقوط الخلافة العباسية فى بغداد على يد التتار.. ( هذا هو حديثنا باكر )