عمار علي حسن
(1)
يضع الأزهريون لمؤسستهم العريقة عنوانا عريضا يصفها دوما بأنها «جامع وجامعة» واضعين أيديهم على السمات والصفات والقسمات العريضة التى حكمت مسيرتها عبر تاريخ طويل، مفعم بالتفاعلات والممارسات التى انطلقت من التراث إلى المعاصرة، ومن الخاص إلى العام، ومن التجمع إلى المجتمع، ومن الدولة إلى العالم، ومن الدين إلى الدنيا، صانعة حولها نقاشا وجدلا عميقا عن علاقة علماء الدين بسياقهم الاجتماعى والسياسى، ودورهم فى الاستجابة للتحديات الحياتية المتوالية والمتجددة، ومدى تعويل جموع المسلمين عليهم فى أداء المهام الملقاة على عاتقهم.

ونظرًا لأن الأزهر «الجامع» هو الأقدم، والضارب بعمق فى جذور التاريخ، فإنه يلقى بحمولاته على الأزهر «الجامعة»، ويضع أمامه أغلب الأوقات ثلاثة خيارات، كان عليه أن يفاضل بينها أو يختار اثنين منها، وهى مسألة اختلفت من زمن إلى زمن، ومن نخبة أزهرية إلى أخرى. هذه الخيارات هى:

1ـ الاستمرار فى التركيز على علوم الدين، التى نشأت من تفسير وتأويل النص المؤسس للإسلام وهو القرآن الكريم، وكذلك النص النبوى متمثلًا فى «الحديث»، وتفاعل النصين مع الواقع الاجتماعى.

2ـ المزاوجة بين علوم الدين وعلوم الدنيا، التى فرضتها التطورات، وتخصصت فيها جامعات مدنية، سواء كانت علومًا إنسانية مثل الاجتماع والاقتصاد والسياسة وعلم النفس واللغة والتاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا والآثار والاتصال، والعلوم البينية المرتبة على تفاعلها الخلاق. أو كانت العلوم الطبيعية من طب وهندسة وفيزياء وأحياء وكيمياء ورياضيات.

3ـ عصرنة العلوم الدينية بحيث تستفيد من عطاءات العلوم الأخرى، والتطور الذى شهدته مناهج العلم فى القرنين الأخيرين، بما يؤدى إلى تفكيك العديد من المقولات والتصورات التى يتعامل معها البعض، على أنها ذات قداسة بدرجات متفاوتة، رغم أنها منتج بشرى. وهناك اتفاق تام بين الأزهريين على الخيار الأول، اقتناعًا منهم جميعا بأن الدور الأساسى للأزهر هو العناية بعلوم الدين ورعايتها، لأن هذه هى المهمة الرئيسية التى على الأزهر أن ينهض بها، ولأن صورة الأزهر فى أذهان الناس انطبعت على هذا الأمر، بل إن كثيرين يلجأون إليه فى سبيل القيام به على أفضل وجه ممكن.

فى الوقت نفسه هناك خلاف بين الأزهريين على الخيار الثانى، لكن المختلفين ليسوا فريقين متساويين فى الحجم، فقلة فقط هى التى تتمنى أن يتوقف الأزهر عن تدريس العلوم التى تنهض بها الجامعات المدنية، ويتفرغ للدراسات الدينية.

لكن الأغلبية تتمسك باستمرار الوضع الحالى، وتقدم حجة فى هذا هى أن الأزهريين، كعلماء دين، فى حاجة ماسة إلى تحصيل الكثير من العلوم الأخرى المفيدة لهم فى مهامهم، نظرا لأنها توسع مداركهم، وتعمق معارفهم.

أما الخيار الثالث فيثير جدلا كبيرا فى أوساط الأزهريين، بل إن من بينهم من ينظر إليه بعين الريبة، ويقول «نحن نأخذ بهذا الأمر بالفعل»، لكن الناقدين، بمن فيهم أزهريون، يرون أن الأزهر يتخفف من هذه المسألة إلى حد بعيد، وأنه لو طبق مناهج العلم الحديث، لاسيما فى علوم اللغة وخاصة مقاربات الدلالة والأسلوبية واللسانيات، وكذلك عطاءات علمى الآثار والأنثرولوجيا، وعلم الاجتماع الدينى ووسع مجال الأديان المقارنة، لتفككت الكثير من الرؤى والمقولات التى يتبناها.

فى كل الأحوال فإن تبنى أحد هذه الخيارات، أو المزاوجة بين اثنين منها، أو الجدل حول بعضها، يثبت، ولا ينفى، اللافتة التى يضعها الأزهر على صدره منذ زمن بعيد وهو أنه «جامع وجامعة»، لكن الخيار الثالث هو الأولى بالاتباع، ويعنى انصراف الأزهر إلى العلوم الدينية دراسة وتدريسًا، على أن يكون ذلك فى المرحلة الجامعية، ما يعنى أن يكون التعليم كافة «مدنيًّا» حتى نهاية المرحلة الثانوية، مع تدريس مادتين للتربية الدينية والتربية الأخلاقية، ثم يلتحق بالأزهر من يريد أن يتخصص فى العلوم الدينية، فى مرحلة جامعية تمتد إلى خمس سنوات، ويتم هذا فى ظل تطوير هذه العلوم وتعميقها وعصرنتها.

(2)
شىء عجيب غريب مريب أن يخرج أى حزب سياسى عن مداره السليم، ويهيم على وجهه فى الفراغ، فيظن القائمون عليه أن دوره هو توزيع «معونة الشتاء» أو تمويل جراحات لأجساد المرضى من الفقراء. ويقول هؤلاء إن هذا «عمل خيرى»، غير مفرقين بين الحزب و«جمعيات النفع العام»، التى يربو عددها فى مصر على العشرين ألفًا، لكن هذا فى الحقيقة لا يعدو أن يكون انحرافا فى المسار، وتكرارا لتجارب رفضها المصريون.

الخير الذى ينتظره الناس من الحزب السياسى يا سادة، وهو لو تعلمون عظيم، أن يقوم هذا الحزب بدوره فى جذب الناس إلى المشاركة السياسية، ليكونوا حراسًا على بلادهم، مهتمين بما يجرى فيها ولها، غير مدبرين أو لا مبالين، لأن فى هذا خطرا شديدا، وأن تصبح الأحزاب مدارس للتنشئة السياسية بغية إثراء الحياة برجال الدولة وقادة الرأى العام، كى نقضى على آفة الحكومات غير السياسية التى ثبت فشلها واحدة تلو أخرى.

الخير الذى ينتظره الناس من الحزب السياسى يا سادة، وهو لو تعلمون عظيم، أن يقوم هذا الحزب بدوره فى جذب الناس إلى المشاركة السياسية، ليكونوا حراسًا على بلادهم.
نقلا عن المصرى اليوم