محمد حسين يونس
التعليم في مصر حتي مطلع القرن السابق .. كان في مجمله تعليما دينيا .. يتم في كتاتيب القرية و يتدرج حتي يصل إلي شهادة العالمية الأزهرية .. و حمل لقب ( من كبار العلماء ) .. و كان أغلب المصريون يجهلون القراءة و الكتابة .. و ينالون معرفتهم من خلال صلاوات الجمع .. و دروس ما بعد العشاء في الزوايا .. و المصليات .. و كان لباس العمة و القفطان .. دليل علي التنوير و المعرفة .

العلوم المدنية بدأت من خلال مدارس التبشير الكنسية .. غيرالأرثوذكسية .. و كانت تدرس بجوار العلوم و الرياضة اللغات الأجنبية .. التي تسمح بإستكمال التعليم في أوروبا .

الإستعمار إفتتح بعض المدارس غير الدينية لتخريج أعداد من الكتبة يستعان بهم في الجهاز البيروقراطي لإدارة الدولة .. و كان الحاصل علي الإبتدائية .. في ذلك الزمن .. يطلق علية لقب (أفندى ) .

صاحب ذلك ظهور بعض الصحف و المجلات .. باللغات العربية و الفرنسية و الإنجليزية .. كانت تكتب عن معارك الحربين العالميين فتشد إنتباة المتعلمين .

إفتتاح أول جامعة أهلية و أول كلية للفنون الجميلة .. جاء في مصر .. منذ قرن تقريبا .. و من مدارس البنات و الجامعات الأهلية .. تخرجت العديد من المصريات اللائي عملن في سلك التدريس .

مع منتصف القرن العشرين .. كانت حصيلة التعليم المدني .. قد أعطت ثمارها .. قاعدة من المتعلمين .. و نخبة من المثقفين .. نتداول أسماؤهم بكل محبة و إعزاز و فخر .

المثقفون الذين كانوا في يوم ما نور ونار .. همدت شعلتهم اليوم تحت رماد كثيف اسمه لقمة العيش والبحث عن النفوذ والجرى خلف أموال محطات الفضائيات التي تبث سموم التعصب القومى و العقائدى .

توقفت الماكينة التي أنتجت الرواد .. والعلماء ... والفنانين .. وبدأت في إنتاج موظفين بدرجة مثقف إنتهازى ..

أما من حاول أن يخرج عن الصف فكان مصيره مواجهة أسلوبين إحداهما التجاهل .. فان لم يصلح فالهجوم المستمر الذي يصل إلى حد الاغتيال الفعلي أو المعنوي .. بعد أن أصبح للنظم الحاكمة .. رجال قادرون على السحق ...أو تدمير كل من يتخيل أن الزمن الإزهار قد عاد (نصر حامد أبو زيد والدكتور البرادعى ) نموذجان.

تبقى شريحة محدودة من المثقفين المستقلين الذين لا يتعاملون مع الثقافة على أساس أنها مصدرا للرزق وهؤلاء متناثرون بشكل عشوائي يجعل من الصعب توحيدهم أو تحويلهم إلى قوة ايجابية لتطوير المجتمع ..

فضلا عن أن كل منهم كانت له مصادره الثقافية التي أثرت في تكوينه والتي تخضع للصدفة .. بحيث يصعب أن تجد بينهم – رغم شرف المقصد – توافقا نظريا أوفى آليات التطبيق ..

و هكذا أصبح لدينا مثقفون ذوى أصول ثقافية مختلفة المنابع .. بعضها قادم من تحت مظلة الدين .. بدرجات ما بين الأصولية البحتة (مسلم أو مسيحي) أو الموضات الأمريكية التي تسوق للدين بنفس الآليات التي تم تطويرها في هذه المجتمعات لترويج السلع ..

والبعض الآخر قادم من مضادات الأديان .. سواء (نيتشة – كيركجورد – سارتر- البير كامى) أو من رحاب القومية (البعث والناصرية) .. أو العلمية (دارون – فرويد- ماركس) وما بين النقد البسيط والذي يهز أساسات وقواعد الدين .. والانفجارات العنيفة التي تطيح به شكلا وموضوعا .. تحدث حوارات صاخبة ذات وزن من المناقشات السلمية إلى الخناقات الشوارعية في بعض الأحيان .. ورفع قضايا الحسبة و التهديد بالسجن .

البعض الآخر لا يهمه تقويض الأديان بالقدر الذي يهتم فيه بتحديث العلاقات الناتجة عن الأديان .. خصوصا ما يتصل بوضع المرأة ومدى الظلم الواقع عليها من المجتمعات الذكورية شديدة التخلف لتعطى قضايا تحرير المرأة مساحة واسعة من المقالات والدراسات والمناقشات .. على اعتبار أنها حجر الزواية في تطوير هذه المجتمعات..

الضرب العشوائي من المثقفين – فيما عدا ما يقدمه الماركسيون من دراسات مخططة – يضر بقضية التنوير .. ويشتت الجهد في معارك فرعية وجزئية وفى بعض الأحيان سطحية تنتهي بسقوط المقالات اليومي ليحل محلها أخرى طازجة ..

قضيه التنوير تحتاج لأسلوب مخالف .. قصدى .. يتجه نحو إضاءة الأجزاء ذات الظلال الكثيفة في العقل الجمعي للبشر .. ولها أولويات تبدأ بمعرفة الإنسان أن هذا الكون لم يوجد من أجله .. وانه جزء ضئيل منه حتى بتاريخه البشرى الطويل .. بل الحياة بكاملها إنما هي "فيمتو ثانية" في عمر الكون اللا متناهي ...

معرفة الكون الدقيقة قد تقود إلى التعرف على المجرة التي نعيش عليها ... ثم مجموعة الكواكب التي تتجاور معنا وتدور حول الشمس ...الأرض بتنوع مناخها وتضاريسها وبحارها ومحيطاتها .. مساحة واسعة تحتاج للدراسة المتعمقة حتى يدرك الإنسان أنه ليس النموذج المفرد الوحيد ..

وان هناك بشرا لا يحبون "الملوخية بالأرانب" التي يعشقها المصري .. فالملوخية عند البعض تسمى حق الحمير..وعند آخرون مالة البهائم.. والأرانب يطاردونها بالألغام في استراليا .. لذلك فقبول الأخر واحترام تواجده وتجربته من أساسيات التنوير التي بدونها تستمر المعارك إلى مالا نهاية .. وتتغلب قوى الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية – التي قد تكون مختلفة - مكان التناغم البشرى القائم على التنوع.(( نكمل حديثنا باكر ))