امينة النقاش
فى كتابه من «الميدان إلى الديوان» الصادر مؤخرا عن دار الشروق، يروى المفكر الاقتصادى ووزير التموين الأسبق الدكتور جودة عبدالخالق قصة مريرة عن سطوة النفوذ المخيف للمستوردين فى شركات القطاع الخاص، وأساليب الاحتيال والتلاعب بمصير الشعب وأمن واستقرار الوطن التى يتبعونها، لتكديس أرباحهم على حساب المصالح العامة  للغالبية العظمى من الشعب المصري.

فمنذ عام 2005 رفعت هيئة السلع التموينية التابعة للدولة يدها تماما عن استيراد القمح  من الخارج، وأوكلت مهمة ذلك لعدد محدود من شركات القطاع الخاص لاستيراده وبيعه للحكومة، برغم أنه سلعة استراتيجية يعد توفرها احد أركان الأمن القومى. وتتنافس مصر وإندونيسيا على احتلال موقع أكبر الدول فى العام استيرادا له.

تولى دكتور جودة منصبه كوزير للتموين فى الوزارة التى كانت تسمى بناء على طلبه، وزارة «التضامن والعدالة الاجتماعية»،  فى 22 فبراير 2011 فى الوزارة الثانية  للفريق أحمد شفيق، وجاءت تلك التسمية كما يقول الكاتب من خلفية «الثورى القادم من ميدان التحرير».

تبين للوزير عن قرب الممارسات الخارجة على القانون لبعض الشركات الخاصة المستوردة للقمح، وإحداها تتولى استيراده من  جمهورية كازاخستان، وحين زار الوزير ضمن وفد مصر  كازاخستان للمشاركة فى أعمال منظمة المؤتمر الإسلامى، دبر لقاء مع صاحب الشركة التى تبيع القمح للشركة المصرية، فقال له المورد الكازاخستانى ما يدمى القلب ويجرح الشعور. فرئيس الشركة المصرية الخاصة كان يشترى القمح بسعر 300 دولار للطن، ويطلب من المورد أن تصدر فاتورة البيع بمبلغ 360 دولارا ، ليبيعه للحكومة بزيادة 60 دولارا عن الطن الواحد. وبهذا الشكل استطاع فى عام واحد هو 2009 أن يبيع للحكومة3,1 مليون طن قمح غير مطابق للمواصفات، فربح من جراء ذلك نحو 186 مليون دولار، بالإضافة لمكسبه الآخر من بقية الصفقة. وكان ذلك فى واحدة فقط من بين الشركات التى استولت بالنفوذ السياسى وتضارب المصالح على تلك المهمة الحيوية، استيراد القمح الذى يصنع منه الخبز البلدى المدعوم!

وبعد شهر واحد من توليه الوزارة، تمكن د. جودة من إصدار قرار بسرية تامة وبشكل مباغت، من جعل استيراد القمح مهمة محصورة  فى يد الهيئة العامة للسلع التموينية، أى فى يد الدولة المصرية ،وظل هذا القرار ساريا طول فترة عمله فى الوزارة التى امتدت نحو 18 شهرا.

لكن ما يثير فزعى وهلع كثيرين غيرى هو ما يؤكده د. جودة من  أن ريما رجعت لعادتها القديمة، وأن الحكومة عادت لتسلم القط مفتاح الكرار، وسمحت مرة أخرى رغم التجارب المريرة بعودة مافيا استيراد القمح للعمل من جديد فى سوق الاستيراد الذى يعج بالفوضى وقوى المصالح.

تلك حكاية تبعث على الدهشة ليس لحدوثها، فمثلها كثير، بل لصمت الحكومة عن الرد عليها لتوضيحها أو نفيها، لا سيما أن الدكتور جودة سبق له أن نشر فصول كتابه قبل شهور فى المصرى اليوم. ويبعث  التغاضى عنها على الاعتقاد أن ثمة تيارا فى السلطة التنفيذية يؤمن أن إقناع المواطنين بالسياسات التى تحكمهم، وتفسير القرارات  والكشف عن الهدف من اتخاذها، مضيعة للوقت وقضية هامشية لا تستحق العناء. وهى فكرة خاطئة يكذبها حرص الحكومة فى الآونة الأخيرة على الرد على الشائعات المغرضة، فضلا عن أن تجاهلها  يهيئ مناخا لانتشار تلك الشائعات التى تنشط هذه الأيام فى الترويج لبيع الدولة كل أصول الملكية العامة تنفيذا لشروط صندوق النقد الدولى!

لكل ذلك ولغيره، ننتظر من الدكتور على المصليحى ردا عاجلا عن مدى صحة هذا الوضع الذى يمس رغيف خبز ملايين المصريين.
نقلا عن الوفد