ماهر عزيز
قادتني ظروف عملي الي لوس أنجيليس في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية خلال عام 1996 حيث استقريت فيها لأنطلق منها جنوبا الي سان لويس اوبيسبو لحضور اختبارات التشغيل لمعدات مراقبة تلوث الهواء التي كانت تستوردها في ذلك الوقت هيئة كهرباء مصر لمحطتي توليد كهرباء عيون موسي وسيدي كرير ...وبعد انتهاء التفتيش الفني وحضور الاختبارات بنجاح عدت الي لوس أنجيليس لأمضي فيها يومي الجمعة والسبت وأطير عائدا الي القاهرة صباح الأحد التالي..
 
قررت أن أقضي بعض الوقت مع أحد زملائي الممتازين الذي كان معي بفصل المتفوقين بالتوفيقية الثانوية .. وكان قد تخرج في كلية طب قصر العيني وهاجر لأمريكا وأنجز المعادلة وعمل طبيبا بلوس أنجيليس بالقرب من لانكستر التي تقع فيها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هناك ، وتخدم الجالية القبطية بالمنطقة ... وكانت جالية كبيرة نسبيا..
 
اعتبر صديقي العزيز الدكتور سامي فايق فريد وجودي هناك في ذلك الوقت فألا حسنا حيث كان حفل حصول زوجته علي شهادة معادلة بكالوريوس الطب من الجامعات الأمريكية في مساء اليوم ذاته الذي قابلته فيه صباحا وكان يوم السبت قبل رحيلي في اليوم التالي الي مصر.
 
وأنا معه في منزله الواقع علي المحيط في الحي الراقي بلوس أنجيليس عرف مني صديقي الدكتور سامي انني أخدم في الكنيسة ذاتها التي جاءهم منها القس النبيل موسي وهبه ليكون كاهنا لكنيستهم في لا نكستر.. و أخبرني بأن القس موسي وهبه قد غادر لانكستر منذ أسبوع واحد فقط الي القاهرة حيث أعاده غبطة البابا الي كنيسته مار جرجس بخماروية بشبرا بعد خدمة زادت علي حوالي خمس سنوات.. وقال لي بأنهم يتعين عليهم اختيار كاهن آخر مكانه في أقرب وقت ممكن.
 
واذا بالدكتور سامي فايق فريد عند هذه اللحظة من حديثه يشخص الي ببهجة غير محدودة كأنه وجدها...وقال لي يجب أن تؤجل سفرك غدا لبعد غد فتحضر القداس معنا غدا وبعد القداس سيجتمع مجلس الكنيسة ويختارك كاهنا لنا خلفا للقس موسي وهبه..
 
أبديت دهشتي .. وحاولت الاعتذار .. وأردت أن أشرح له أسبابي في عدم استطاعتي قبول هذا الترشيح لكنه رفض أن يسمعني قبل أن يعرض علي كيف ستكون حياتي ميسرة ورائعة في أمريكا لو قبلت هذا الترشيح...
 
قام مسرعا وأخذني الي خارج منزله الفخم ودعاني لأركب الي جواره في سيارته الفارهة وراح يطوف بي في لانكستر لأري الكنيسة و أشاهد المنزل الفخم المخصص للكاهن..
 
أشار للبيت الكبير الجميل المحاط بحديقة مزدانة بأشجار الورد والتفاح والخضرة الكاسية المورقة البديعة وقال لي هذا سيكون بيتك .. ثم أكمل تجواله بالسيارة وهو يقول لي ستنال راتبا شهريا سبعة ألاف دولار كبداية.. اولادك سيتعلمون أعظم تعليم ودراستهم الجامعية ستكون في هارفارد .. الرعاية الصحية مكفولة لك وأسرتك علي اعلي مستوي..مهما رغبت في شيء ستجده في التو واللحظة طوع بنانك.. فقط قم بتأجيل سفرك ليوم واحد فقط وسنختارك غدا كاهنا لكنيستنا...
 
كنت قد أعددت نفسي لرحلة كفاح طويلة بوطني مصر .. بدأتها واتطلع للمضي فيها قدما.. فأزعجتني السهولة التي سأحصل بها علي كل شيء في لحظة ... وكنت سعيدا بالتغلب كل يوم جديد علي صعوبات جمة وتحقيق انتصارات صغيرة متتابعة و لكنها مفرحة .. كنت راضيا بحياتي هكذا دون رغبة في القفز عاجلا الي منتهي الآمال...
 
كنت اصلي الي الله متجددا كل يوم بروح مملوءة بالثقة والارتقاب والرجاء وخلوص القلب لله... وكنت أحرص ألا أنزلق الي فخ تصير فيه الطقوس شكليات رتيبة متكررة تقتل الروح رويدا رويدا حتي تستقر كعادة يختفي فيها الله تماما فأجدني مطروحا خارجا بعيدا عن عنايته وحدبه...
 
كانت فكرة تحولي من الابداع اليومي في عملي وفي حياتي الي ممارسة طقوس ثابتة لا تتغير أخشي عليها من الرتابة والجمود .. كانت فكرة تحولي هكذا ، وخشيتي منها ، تكاد تقتلني ...
 
كانت رؤيتي لخدمتي في العالم شديدة الوضوح بالنسبة لي.. فكنت أري ان سبيلي للخدمة في العالم هي الخدمة العلمانية وليست الخدمة الكهنوتية... وكنت اري الخدمة الكهنوتية رسالة تنبع الدعوة إليها من أعماق أعماق النفس.. ولا يكفي أبدا أن تأتي الدعوة إليها من الخارج هكذا مهما كانت قوية علي هذا النحو الذي تلقيتها به ...فكانت الدعوة المقدمة لي للكهنوت رغم قوتها العاتية لا تجد صدي قويا لها في داخلي.. وقد اعتبرت دائمآ أن من يقبل بالكهنوت ليحصل علي مزايا رائعة كهذه دون أن يحس بالدعوة ذاتها تخرج من أعمق أعماقه هو سارق للكهنوت...فكانت قناعتي آنذاك - ولا تزال - انني قد دعيت للخدمة في العالم كعلماني وليس ككاهن ..
 
كان العرض بالكهنوت المقدم لي يحمل في طياته الفوز العظيم بكل مزايا الأرض في لحظة ... لكنني وجدتني لا أستطيع أن أمضي معه هكذا ، ووجدتني لا أستطيع أن أقبل ابدا بأن أكون انتهازيا يسرق الكهنوت .. يسرق ما لا يجب ابدا أن يسرق !!!
 
نظرت لصديقي الدكتور سامي فايق فريد ، وابتسامة عريضة تملأ وجهي ، وقلت له مداعبا : " لا عليك يا صديقي العزيز .. سامحني .. أصل أنا ماعرفش ألبس العمة " .