1- مقــدمة
بقلم: دكتور مهندس/ ماهر عزيز
    استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ
    يجتاز المسيح أمامنا كل المواقف البشرية، ويصنع فى الواقع والفعل أنموذجاً يحتذى، ومثالاً جديراً وحدة بالاقتداء...

    صارت القيم الرفيعة فى شخصه "فعلاً" يتحرك، و"عملاً" يسعى، و"أداء" يشهد فى الحياة المباشرة المعاشة – معاملةً للناس والظروف والمشكلات والمآزق وشتى ألوان الشدة والعُسْر – ضرباً من المجاهدة المستمرة الدءوب..

    تقدم المسيح بجسارة فى العالم يناضل قوى الشَّر والظلم سائراً على الدرب كله حتى الجلجثة..

    تساقطت على طريق نضاله إغراءات العالم وهو يغالب بين عثرات الطريق ثقل صليب جائر طبع ظهره المحنى ومنكبيه المكتويين بلهيب شمس محرقة..

    وترك لنا على دربه آثار ما يتعين علينا أن نفعله..

    فَعَلَى مثال المسيح.. يتعين أن نناضل حتى الانتهاء.. ونكافح حتى النفس الأخير صنوف الظلم فى كل أقنعته.. والشر فى جميع أوكاره.. فَنَتَعَرَّف جوهر نضاله النبيل ومعنى الحياة الغالبة المنتصرة..

    نحن فى حاجة ماسَّة للاقتداء بالمسيح..

    والاقتداء به يعنى الامتلاء إعجاباً وانبهاراً بشخصه الجليل.. والسير على دربه..

    وإذ نمتلئ إعجاباً وانبهاراً به فإننا نحبه من قلب الوجود.. ويتبدى لنا مثالاً جديراً وحده بالاقتداء..

    فإذا ملك علينا قلوبنا.. لن نموت أبداً إلا لنبعث أحياء من جديد.

    نحن فى حاجة حقيقية للاقتداء بالمسيح.. لا لكى تستمر مهزلة "البقاء وحسب".. بل ليكون بإمكاننا أن نبلغ المعنى الحقيقى للحياة، كما أجلاها يسوع ذاته، وكما كشف عنها بوصفه "ابن الإنسان" الذى أراد أن يقتادنا إلى جوهرها الباطن، ويهدينا إلى مغزاها العميق..

    الاقتداء بالمسيح هو انتقال من الوهم إلى الحقيقة.. ومن الخوف إلى الإقدام.. ومن الجمود والقعود والاستكانة إلى الحركة الواعية الخلاقة..

    الاقتداء بالمسيح هو خروج من عبودية النكوص والارتداد إلى حرية المواجهة الجسور والسخاء الإبداعى..

    الاقتداء بالمسيح من هذا المنظار هو فى جوهره انتقال من عالم القول إلى عالم الفعل.. ومن الانفعال اللفظى إلى الاحتشاد العملى.. ومن النقاش والجدل إلى الأداء الخلاق والسلوك المستقيم..

    إننا حين نقتدى بالمسيح نستنهض فى أنفسنا كذلك كل الشخصيات المجاهدة التى وقفت صفاً واحداً تتمثل به.. وتعتصم بشموخه.. فى وجه الوقائع القاهرة التى تحفل بها الحياة لكى نجسر سوياً على مواجهة ما يتهدد بشريتنا من ضروب الألم والعذاب والشرّ.

    كل من يؤمن بالمسيح لن يكون مؤمناً به حقاً إلا أن يدركه فى إنسانيته المجاهدة إلى قمة الملء البشرى، ليسلك كما سلك ويكافح كما كافح، وينتصر أيضاً مثلما انتصر على الدوام..

    ناضل حاملاً مصيره على كَفِّه بقوة لا تلين، وتقدم بجسارة الرجال وبأسهم نحو موضع حتفه، مستيقناً من الحق الذى يحمله فى قلبه، وعاقداً العزم على التضحية لأجله حتى الانتهاء..

    سار بكل نُبْله وثقته وسط الجموع المحتشدة متقدماً تحت نير صليبه.. رافعاً رأسه وعيناه تخترقان الحُجُب رانية إلى بعيد.. إلى الجلجثة.. حيث توجد غايته ويتركز هدفه..

    من قبل أن يحمل صليبه تجلى عزمه وسطعت إرادته..

    ربُّ العزم والإرادة.. كأبلغ ما يتولد العزم.. وأروع ما تتبدى الإرادة..

    فتمجد فى شخصه الباهر كل الجهاد والشموخ البشرى..

    وإذا المسيح رب العزم والإرادة.. فعندئذٍ.. وعندئذٍ فقط.. نبلغه ونقتدى به، ليس كمبدأ نعتنقه.. وليس كرمز نرنو إليه.. وليس كفكرة نُدين بها.. وإنما كتحقق للمبدأ نحيا به.. وكتشخيص للرمز نسعى إليه.. وكتجسيد للفكرة تعيش فينا..

    مسيح الأربع والعشرين ساعة.. الذى عاش مثلنا.. وأكل مثلنا.. واشتغل مثلنا.. وغضب مثلنا.. وتَوَّجع مثلنا.. وبكى مثلنا.. وفعل كل ما نفعله..

    نبلغه هو الإنسان الأعظم الذى يملك علينا عقولنا وقلوبنا وكياننا وضمائرنا بوصفه عاش مثلنا وسلك مثلنا وحقق فى التاريخ التجسد الحقيقى للـه الكلمة.

    ويثير ذلك مسألتان جوهريتان:
    • فنحن كثيراً ما نجتر اسم اللـه باطلاً.. ونلوك اسم المسيح المجيد فى مهاترات لفظية ظناً منا أننا نتباحث فى لاهوت أمور عليا خليقة بأصحاتب العقل والإيمان..

    وإذ نفعل ذلك فى اقتحام غير مسئول للكلمات والمعانى نظن أننا بذلك نشهد للمسيح.. بينما لا نتجاوز فيه "المسيح النظرى".. وحتى المسيح "فى المستوى النظرى" هكذا نعثر فيه عثرات عُظْمَى..

    لكن "المسيح النظرى" الذى نقتصر عليه فى الشهادة له لا يلبث أن يرفض ذلك كله فينا.. إذ الشهادة الجسور لا يقدر لها أن تحيا فى الواقع الفعلى إلإ "بالمسيح العملى"..

    ونحن فى اجترارنا غير المسئول "للمسيح النظرى" نخطئ فيه خطأ لا يغتفر "نظرياً" و"عملياً"..

    • وإذا كان من العسير حقاً لأى بشر أن يكشف عن مواطن عظمة المسيح لقصور جوهرى يعتورنا..

    فكيف نكشف عن العظمة فى نبع كل عظمة؟

    وكيف نُبَيِّن المجد فى واهب المجد كله؟

    لكن ذلك الحاجز ينهار إذا أخذنا على عاتقنا أن نتعرف يسوع بوصفه ابن الإنسان.. الذى أحنى السماء ونزل.. وشابهنا فى كل شئ ما خلا الخطية..

    فنحن إذن على موعد مع "المسيح العملى" فى اكتشاف جوانب الإنسانية النبيلة السامية فى تجسده وحياته مثلنا جميعاً على الأرض.

    ولأجل ذلك:
    إلى كل الذين يخدعون أنفسهم بمعرفة المسيح لممارستهم العبادات..
    بينما قلوبهم تحتال على الحق وتحتضن الباطل فيدوسوا المسيح ولا ينظروه..

    وإلى كل الذين يوهمون ذواتهم بالتدين لاستغراقهم فى الوسائط..
    بينما عقولهم ترعى فى الظلمة وتقتات بالهوى فيغتالوا المسيح ولا يدركوه..

    إلى أولئك وهؤلاء جميعاً يساق هذا الكتاب..