ماهر عزيز بدروس
 قال يسوع لجميع الذين يقتفون خطاه ويصنعون إرادته: " هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسْطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ" (مت 10 : 16)، فطالب - من ثَمَّ - الجميع على مر الدهور باقتناء الحكمة التي لا تُفْسِدْ بساطة القلب..

    الحكمة التي تعتصم الحَذَر كأحيل حيوانات البرية، لكنها تتحصن في البراءة أيضاً كأسراب الحمام..

    الحكمة التي تسقط أمام فطنتها النقية حيل الذئاب، وتتقطع لها حبائل الخبث والغدر والاحتيال..

    وقدم هو ذاته المثال وهو يشد الأبصار إليه كنبع الحكمة كلها، فيكشف عن المواجهة القائمة الدائمة للحق في مقاومة الدهاء.. ونور الاستقامة في مواجهة ظلام الأردياء: "َرَاقَبُوهُ وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ يَتَرَاءَوْنَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ، حَتَّى يُسَلِّمُوهُ إِلَى حُكْمِ الْوَالِي وَسُلْطَانِهِ.. فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ بِالاسْتِقَامَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُعَلِّمُ، وَلاَ تَقْبَلُ الْوُجُوهَ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ" (لو 20 : 20 و 21).

    هكذا أرادوا تعميته وتضييع وعيه بالمديح الغاش ومعسول الكلام الخادع.. ضربوا على الوتر الخالد لتعظيم الذات بمديح المكر والكذب والدهاء.. ومازالوا يفعلون ذلك حتى يومنا هذا وإلى أبد الدهر.. يأتون في كلماتهم المعسولة التي ظاهرها الإكبار والإعجاب والمداهنة وتمجيد الذات، لكن باطنها السم الزعاف وتغييب الوعى..

    راحوا يَدُسَّون له السم.. ويسألوه: "أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟" (لو 20 : 22).

    ظاهر البراءة في السؤال لا يكشف أبداً عما يخفيه.. لكنه بحكمته ووعيه "شَعَرَ بِمَكْرِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟"(لو 20 : 23)

    لأنه إذا قال أعطوا الجزية لقيصر يكون خائناً لأمته ناصراً لأعدائها عليها، وإذا قال لا تعطوا الجزية لقيصر يكون متمرداً على الحكم عاصياً لقيصر.. في الحالين معاً يحفرون له حفرة هائلة كى يوقعوه فيها بلا قلب وبلا رحمة، رغم كلمات الإطراء المعسولة التي بدأوا حديثهم بها..

    لكن حكمته ووعيه ألهماه الجواب الصحيح فقال لهم: "أَرُونِي دِينَارًا. لِمَنِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَأَجَابُوا وَقَالوُا: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ «أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ».. "فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ قُدَّامَ الشَّعْبِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَوَابِهِ وَسَكَتُوا" (لو 20 : 24-26).

    الحق أن الحكمة ليست إلهاماً قدرياً يؤتى للموعودين.. إنما هي إعمال للعقل وفق مبادئ واقعية تعصمه الزلل والشطط والغفلة.

    سيفعلون ذلك معكم كل يوم..

    سيخدعونكم بمعسول الكلم ليختطفوا انتباهكم ويضيعوا حكمتكم ويسلبوكم وعيكم فاحذروا شرهم وخطرهم وخديعتهم..

    وها هو المسيح الأعظم يعلو فوق الخديعة ويهزم مكر القلوب.. فهل نلتقط بذور الحكمة ونتعرف مبادئها فيما صنعه هو بنفسه؟

    يرسى السيد في حكمته قواعد الحكمة كلها، التي تصير لنا جميعاً مناطاً للاقتداء..

     نقلهم أولاً من الجدل النظرى إلى الواقع الفعلى.. ومن السؤال الفَرْضِى إلى الحقيقة الماثلة..
    فسألهم: فيمَ تشتكون؟ أتشتكون على الجزية؟ وما هي الجزية؟
    أليست هي المال الذى تؤدونه صاغرين عن أمنكم وحياتكم؟ وما هو هذا المال؟
    أليس هو تلك القطع المعدنية التي يتعين أن تجمعوها لتفتدوا بها حياتكم من يد مغتصبيكم؟
    أنتم تحدثوننى عن العملة إذن؟
    أين هي هذه العملة؟
    أرونى عما ترتبكون وتسألون؟
    فإذا به ينقلهم إلى واقع حقيقى له ظاهره المادى الذى لا تخطئه العين..
    وحين انتقل هكذا إلى الواقع الحقيقى بديلاً عن المجادلة التصورية بدت الإجابة قريبة دانية..

     وجههم ثانيةً إلى فحص الواقع الذى يحتوى الأشياء التي يدور الجدل حولها، وتُتَّخَذ مادة للخداع والغش: " لِمَنِ الصُّورَةُ؟ لِمَنِ َالْكِتَابَةُ؟".. فكشف بذلك عن مبدأ جوهرى في اقتناء الحكمة.. وهو الاحتكام إلى فحص الواقع وتحديد طبيعته وأصله..

    وهو يفعل ذلك بحثاً عن الحكمة واعتصاماً بها أطلق تنبيهه الحاذق: " وَلكِنِ احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ، لأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ " (مت 10 : 16).. لأنهم إذا ضَيَّعوا انتباهكم، واستغلوا غفلتكم، وأفقدوكم كل سبيل إلى الحكمة أمامكم، سيمكنهم عندئذ أن ينكلوا بكم، ويسلبونكم حقكم وأمانكم، ويأخذونكم رهينة اعتداءاتهم عليكم..

     وعلى الجبل وهو يعلن دستوره الإنسانى المذهل، ويطلق مبادئ الحياة السامية، وجههم ثالثةً إلى مبدأ جوهرى لاقتناء الحكمة فقال لهم: "اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ. مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟"، "لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا رَدِيَّةً، وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَارًا جَيِّدَةً"، "فَإِذًا مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ" (مت 7 : 15-20)..

    نعم.. فعمل يدى الإنسان وثمار أفعاله وتصورات قلبه وفكره هو واقع متحقق ومنظور.. يتجلى في علاماته الواضحة الصريحة دون أن تخطئه العين، أو يختلف عليه الفهم أو الإدراك.. وهو هكذا محك جوهرى لإدراك الحكمة.

    تفضح حكمة المسيح سذاجتنا وتكشف جهلنا وتسرعنا وحماقة أفعالنا، فتدفعنا دفعاً كى نجلس عند قدميه نتعلم فطنته وحكمته ورؤيته الثاقبة الفاحصة المستنيرة.

    السذاجة نَقِيضُ الحكمة..

    وما فتئت حكمة المسيح بمثابة قوة قائمة تناهض كل أشكال السذاجة والعبث الفكرى الذى يقودنا من حيث ندرى أو من حيث لا ندرى إلى الحماقة والافتقار للحكمة..

    فعلى رأس آفاتنا الفكرية المكينة آفة السذاجة التي تتفشى في كل حياتنا العقلية، وتجعلنا نخلط السذاجة بالبراءة بالبساطة دون تمييز..

    فإذا كانت البراءة هي طهارة القلب والنفس، فهى سمة روحية وأخلاقية اهتمت بها الأديان والشرائع لتصفية النفس لا العقل.. ولتحرير الفرد من الآثام لا من الأفكار.. وهى بمثابة نداء يهيب بالناس التخلص من شوائب الخطيئة، وليس التخلي عن ضرورات الحياة العقلية..

    فبين السذاجة والبراءة من بُعْد الشُّقة ما بين السماوات والأرض، والإنسان البريء ليس هو الإنسان الساذج..

    وإذا كانت البساطة هي الوضوح واليُسْر وعدم التعقيد، فتلك سمات عقلية أبعد ما تكون عن السذاجة ..

    البساطة هي الوضوح بالذات، وكثير من الأفكار العميقة لا تزيد عن كونها في الأصل أفكاراً بسيطة واضحة بذاتها..

    أما السذاجة فهى مظهر من مظاهر التخلف العقلى.. وإذا كانت ممدوحة لدى الأطفال الذين تمثل بالنسبة إليهم مجرد عَرَض من أعراض النمو الطفولى، فإنها مذمومة لدى البالغين..

    السذاجة شاهد على فقر الحصيلة الفكرية اللازمة لمواجهة مواقف الحياة..

    السذاجة تصدق كل شيء، وتسلم بكل شيء، ولاتُعْنَى بالخوض في أي شيء..

    السذاجة ساذجة جداً حتى لترى النتائج بلا مقدمات، والمعلومات بلا علل، والأثمار بلا عمل، والحلول بلا مشكلات..

    السذاجة لا ترى مشكلات على الإطلاق، بل هي ترى حلولاً جاهزة، وحقائق واضحة بذاتها.. لا ترى في الطبيعة والمجتمع سوى "وقائع" تنهض بتفسير ذاتها، وكأن كل شيء مكشوف للعقل..

    السذاجة لا تدرك الحيلة والدهاء، وأحابيل التذاكى التي ينسجها الخبثاء في العالم، ولا تدرك "اللف والدوران" والأساليب الملتوية في السلوك..

    ولا يظن أحد أن السذاجة تُمْتَدح بأمثال هذه الصفات، لكن ذلك معناه أن أخشى ما تخشاه السذاجة إنما هو الحرية والمسئولية.. وهى تتذرع ببراءة الطفولة وبساطتها، خشية أن يكون عليها أن تواجه مصيرها بنفسها ولنفسها، ببصيرة الشخص البالغ الناضج الحر المسئول.

    وليست "سذاجة التفكير" وحسب.. بل أيضاً "سذاجة التقدير".. وإن بدت سذاجة التفكير وسذاجة التقدير وثيقتا الصلة ببعضهما البعض، فإن الدوائر التي تمتد إليها سذاجة التقدير قد تكون أوسع من الدوائر التي تتماس بها سذاجة التفكير.. ألم يكن "سوء التقدير" سوى تعبير عن "سذاجة التفكير" لدى أولئك الذين لم يدركوا أن "العدو" ينادى بالسلام في الوقت الذى يتأهب فيه للحرب، وأن الدعوة للهدنة لم تكن سوى "خدعة" لكسب الوقت وإعادة ترتيب آليات الهجوم؟

    حكمة المسيح اليوم تعلنها حرباً شعواء على سذاجتنا في شتى مناحى الحياة..

    فترفض السطحية والسهولة الهوجاء التي طالما واجهنا بها المسائل المختلفة في خفة ورعونة، وتساهل فكرى غير متزن وغير واعٍ..

    ترفض الحلول المرتجلة الساذجة، وتكرس امتلاك أدوات التحليل والتقييم ما استطعنا في مواجهة العالم حولنا..

    وإذا كان "رَأْسُ الحِكْمَة مَخَافَةُ اللـه" (مز 11 : 10)،فما ذلك إلا لأن مخافة اللـه "هي المعرفة، والحيدان عن الشر هو الفهم" (أي 28: 28)، و"خفيات الحكمة أنها مضاعفة الفهم"(أي 11: 6)، فيلهج فم المتسلحون بالمعرفة والفهم "بالحكمة ولسانهم ينطق بالحق" (مز 37: 30)..

    وإذا كان "مع المتشاورين حكمة" (أم 13 : 10)، فما ذلك إلا لأن المشورة توسِّع مدارك الإحاطة وتمدد نطاق الإدراك والوعى.. و"مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ" (يع 3 : 13)، و"مقتنو الحكمة يحققون مجداً" (أم 3 : 35).

    "فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء" (أف 5 : 15)..

    ولا يغيبن عنكم البتَّة أن المسيح واجه الحيلة والخُدْعَةَ والشرَّ وسوءَ النية والتواءَ الضمير بالوعى والانتباه والحكمة.