محمد طه
العالم الجليل الشيخ أحمد الطيب كتب على صفحته تهنئة للأخوة الأقباط بمناسبة أعياد القيامة.. وكما هو متكرر ومتوقع، مئات وآلاف التعليقات على كلامه (كلام شيخ الأزهر نفسه)، بتنتقد الرجل.. وبترفض تهنئة الأقباط.. وبتتهم من يهنئهم بتهم تتراوح بين التشجيع على الكفر إلى الخروج من الملة..

أنا مش مع نظرية ان دول ناس متطرفين أو متآمرين.. بلاش نضحك على نفسنا.. دى شريحة -مش قليلة- من الناس العادية الكتير اللى ماشية فى الشارع.. اللى حصل لعقولهم عملية غسيل مخ أصولية وهابية عبر عقود..

الصديق العزيز الإعلامى عمرو عبدالحميد عرض فى حلقة رأى عام امبارح مشاهد من فيلم مصرى تم انتاجه وعرضه فى ثلاثينيات القرن الماضى، اسمه (حياة وآلام السيد المسيح).. فيلم كتب المادة الحوارية ليه الأب (أنطوان عبيد)، وراجعها عميد الأدب العربى (طه حسين).. بيمثل فيه دور (السيد المسيح) ممثل مصرى مسلم اسمه أحمد علام.. وبتقوم فيه الفنانة المصرية المسلمة عزيزة حلمى بدور السيدة (مريم العذراء).. والفنانة المصرية المسلمة سميحة أيوب بدور (مريم المجدلية)..

يبدو اننا كنا متحضرين.. وتخلفنا.. كان عندنا حب واحترام للفن.. اتشوه الحب.. وخسر الفن نفسه واحترامه.. كان عندنا قبول للآخر.. وبخ.. راح.. رغم ان دول كانوا برضه مسلمين.. موحدين.. يعرفوا ربنا..

السؤال المحير فعلاً: ليه هذه العقلية مش عاوزة تتغير؟ ليه ما زالت مصرة على أفكارها وقناعاتها؟ ليه بتفضل الجمود على المرونة وإعادة النظر؟ رغم كل جهود العلماء (الحقيقيين) فى التوعية الدينية.. رغم كل جهود النفسيين والاجتماعيين فى التوعية النفسية والاجتماعية.. رغم ان شيخ الأزهر بنفسه يطلع عياناً بياناً يهنئ الأخوة الأقباط بأعيادهم..

ليه الأمهات والجدات الطيبين يصحوا الصبح فى يوم زى ده يعيدوا بكل بساطة وتلقائية على جيرانهم ومعارفهم المسيحيين؟ ويرفض أبناءهم متوسطى العمر والثقافة هذا الفعل ويدينوه؟ بل ويحرموه ويكفروا من يهنئ (النصارى) بأعيادهم.. ومهمة أوى حكاية (النصارى) دى.. مع تفخيم (الصاد)..

هل أنتم أكثر اسلاماً من شيخ الأزهر؟ هل أنتم أعلم بدينكم منه؟ هل أنتم أحرص على الحق والعدل منه؟

أنا عندى أسئلة أكتر ما عندى إجابات..

هل يتصور أى عاقل ان ربنا الواسع الرحيم يخلق بشر.. وبعدين يؤمر نصف هؤلاء البشر بكراهية نصفهم الآخر.. ويعتبر ده عبادة وتقرب ليه؟ حاشا لله..

هل يتصور أى عاقل إن آخر دين إلهى سماوى نزل للبشرية، يطلب من أتباعه يضيقوا الطريق على غير أتباعه؟ مستحيل ومش ممكن..

هل يتصور أى عاقل إن إله حكيم عليم، هايزعل من إنسان يتمنى لإنسان تانى، وللإنسانية كلها، الطيبة والصحة والعافية؟ افتراء ما بعده افتراء على الله..

هو الدين بيجمع الناس واللا يفرقهم؟
بيحببهم فى بعض واللا يكرههم فى بعض؟
بيقربهم من بعض والا يبعدهم عن بعض؟

أفلا تعقلون؟ أفلا تفقهون؟ أفلا تتفكرون؟

فى الحقيقة آه.. البنى آدم ممكن إنه لا يعقل ولا يفقه ولا يتفكر..

لما يكون عقله ثابت ومتجمد عند مرحلة بدائية جداً فى النمو النفسي.. اسمها الموقف البارانويدى- السكيزويدى Paranoid Schizoid Position.

وده ايه ده حكايته كمان؟

***

احنا عقلنا ونفسيتنا متسستمين على سيستم من اتنين.. واحد اسمه الموقف البارانويدى-السكيزويدى/الارتيابى-الفصامى Paranoid Schizoid Position.. وواحد اسمه الموقف الاكتئابى Depressive Position..

بغض النظر عن المسميات الأكاديمية المعقدة.. الموقف الأول بخليك تشوف العالم مقسوم نصين.. ده عدو.. وده حبيب.. بيخليك -فى عمق أعماقك- خايف ومهدد طول الوقت.. من أى حد.. وأى حاجة.. بيخلي موقفك المبدأى من أى آخر هو موقف المتوجس المتربص.. بيخلي التحفز والكره أسهل من القبول والحب.. وفى نفس الوقت، بيملا ذاتك الهشة و(الأنا) الضعيفة بتاعتك، بكثير من النرجسية والغرور.. فيهيألك إنك أفضل وأعلى وأسمى ممن سواك.. ويسقطلك كل مخاوفك وتوجسك وكراهيتك على من أمامك.. فتشوف إن كل الناس بيكرهوك.. وكل الناس متربصين بيك.. ومتحفزين ضدك.. وحاقدين عليك..

الموقف التانى بيخليك تشوف نفسك واللى قدامك والعالم كله ككل متكامل.. فيه الحلو وفيه الوحش، مع بعض.. مش مقسومين نصين.. بيخليك -فى عمق أعماقك- عايش حالة من التأمل والشجن.. لأنك شوفت الحقيقة.. حقيقة نفسك وحقيقة الآخرين.. اننا كلنا بشر.. زى بعض.. تشابهنا أكتر من اختلافنا.. غلابة.. فينا كل حاجة.. دى الحقيقة.. والحقيقة بتصدم.. والشوفان بيوجع (علشان كده سموه موقف اكتئابى).. بيخليك تحب غيرك من غير ما تعرف تفاصيله.. وتقبله كله على بعضه زى ما هو بعبله.. وتحب نفسك وتقبلها هى كمان بتفاصيلها وعبلها.. بيخليك تتجاوز خناقاتك الداخلية المرهقة، وصراعاتك الخارجية التافهة.. الموقف ده فيه تواضع.. وتصالح مع النفس.. واستيعاب للغير.

باختصار شديد.. الموقفين دول همة موقفين من الآخر.. موقف بيعادى الآخر ويستقبله -مبدئياً- على إنه تهديد.. وموقف بيقبل الآخر كما هو.. وبيستقبله على إنه فرصة للمصالحة.. مع النفس.. ومع العالم..

موقف بيخلى صاحبه عايز يعيش فى الدنيا لوحده، على حساب فناء الآخر واحتقاره وسحق وجوده.. وموقف بيخلى صاحبه يعيش.. ويدى الناس حقها انها برضه تعيش.. Live and Let live

موقف مليان احساس بالذنب على أى وكل شئ.. وموقف لا يعرف إلا التقدير والعذر والسماح..

موقف لغته الأساسية (إما.. أو)Either-or.. وموقف لغته الأساسية (ده.. وده) Both-and..

موقف أقرب للموت.. وموقف أقرب للحياة..

موقف بيصنع متطرف.. وموقف بيصنع إنسان..

من يومين كتبت مقال عن (ليه الناس مش بتلتزم ولا هاتلتزم بالحظر).. وقولت فيه إن أحد أسباب ذلك هو إن عقليتنا المجتمعية علاقتها بالموت أقوى من علاقتها بالحياة.. كتير من المتابعين والمعلقين أمنوا على كلامى.. وطلبوا مقالات أخرى فى نفس الاتجاه.. فى الحقيقة احنا ممكن نشوف كل تصرف أو سلوك مجتمعى من الزاوية دى..

فيه سلوكيات تقول إن علاقتنا أقوى بالموت.. وفيه سلوكيات تقول إن علاقتنا أقوى بالحياة.. تفتكروا انى لما أرفض أهنى بنى آدم (من أى ملة أو عرق أو دين) يوم عيده، ده سلوك ليه علاقة بالحياة أكتر واللا بالموت أكتر؟ آدى يا سيدى أول مقال..

تعال بقى نختم بالمفاجأة..

***

المفاجأة ان الموقفين أو السيستمين دول هما مرحلتين فى النمو النفسي للأطفال.. الموقف الارتيابى الفصامى بيحصل للأطفال من أول الولادة حتى ست شهور من العمر.. والموقف الاكتئابى بيحصل من بعد ست شهور حتى تمام واكتمال النضج النفسي.. بس فيه بعض الأطفال بيثبتوا نفسياً عند المرحلة الأولى.. ويكملوا حياتهم بتركيبات نفسية معقدة.. زى أمراض البارانويا.. وبعض اضطرابات الشخصية.. والفصام.. والبعض الآخر بيتجاوز هذا الموقف ويكمل نموه بنجاح..

وزى ما قولت وباقول كتير.. ان ما يسرى على الأفراد.. يسرى -أحياناً- على المجموعات والمجتمعات والثقافات.. فيه مجموعات ومجتمعات وثقافات موقفها من الحياة ارتيابى فصامى.. ومجموعات ومجتمعات وثقافات موقفها من الحياة اكتئابى تأملى.. هو إيه الكلام الصعب ده:)

إيه بقى اللى يثبت نفسية الأفراد أو المجتمعات عند المرحلة/الموقف الأول.. ومايكملوش النمو النفسي السليم؟ ايه اللى يخلى عقلية البعض تتحجر وتتكلس وترفض الحركة والمرونة فى اتجاه النضج؟ وإيه اللى يغير ده؟

طبعاً دى قصة كبيرة أوى.. عاوزة كتب ومجلدات.. بس خلاصتها..
إننا لو قررنا نتغير هانتغير.. بس التغيير مخاطرة..
ولو قررنا نتحرك هانتحرك.. بس الحركة معاها اكتشاف.. والاكتشافات محيرة..
ولو قررنا نكبر هانكبر.. بس الكبران مؤلم.. ومعاه مسئولية كبيرة أوى..

فعلى إيه.. خلينا زى ما احنا.. احنا أحسن ناس.. والباقى كخة.. احنا حلوين.. وهما وحشين.. احنا زى الفل.. وهما أى كلام.. هو فيه أجمل ولا أسهل ولا أريح من كده؟

فى الحقيقة فيه.. بس ليس من سمع كمن رأى..
ومن ذاق عرف..
من ذاق عرف..
كل سنة وانتم طيبين وبكل خير..