كتب – محرر الاقباط متحدون ر.ص 
كتب الأنبا رافائيل، الأسقف العام لكنائس وسط القاهرة، مقالا بمناسبة عيد القيامة المجيد، بعنوان " المسيح قام .. بالحقيقة قام ." 
 
وجاء نص المقال : 
نداء وخبر ترددا في ربوع جنبات أورشليم فجر الأحد العظيم .. وما هي إلاَّ ساعات حتى انتشر الخبر في كل اليهودية .. أن يسوع الذي صلبناه قام بقوة، وظهر لرسله وتلاميذه ومريديه .. واكتشف الصالبون فجأة أن ذبيحهم قد قهر الموت وأماته .. وأنهم لم يتخلّصوا منه كما ظنوا وأرادوا، لكن عاد إليهم بقوة وديمومة وسلطان أقوى من سلطان الموت نفسه.
 
لقد قام المسيح حيًّا ومحييًا .. قام لا لنفسه بل لنا، ليمنحنا حياة أبدية دائمة إلى الأبد.
 
١- أبدية القيامة:
ولأن السيد المسيح ليس بإنسان مجرد ولكنه الله المتجسد .. فلذلك لم تكن قيامته حدثًا تاريخيًا فحسب، بل أيضًا هو حدث أبدي .. إذ أن أعمال الله لا تنتهي "قد عَرَفتُ أنَّ كُلَّ ما يَعمَلُهُ اللهُ أنَّهُ يكونُ إلَى الأبدِ" (جا3: 14).
 
فالسيد المسيح اليوم قائم كمثلما كان يوم الأحد العظيم، وقد رآه يوحنا الرائي "خَروفٌ قائمٌ كأنَّهُ مَذبوحٌ" (رؤ5: 6). وذلك لأن كل أعمال الله تبدأ ولا تنتهي.
 
والكنيسة تحتفل بهذه القيامة الدائمة، باحتفال دائم يتمركز في عيد القيامة، ويمتد بطول الخمسين المقدسة، ثم يستمر أسبوعيًا باكر كل أحد، ويوميًا في صلاة باكر (الأجبية). وكأنها تلقننا سر المسيح، الذي بقيامته المقدسة دخل بنا وأدخلنا إلى الأبدية.
 
فالخمسين يومًا المقدسة محسوبة في ضمير الكنيسة كأنها يوم واحد طويل بلا ليل ولا زمان .. هو يوم أحد ممتد (ليس فيه أربعاء أو جمعة أو يوم آخر)، عربون للأبدية الطويلة التي بلا أيام ولا زمان ولا ليل .. بل هي محسوبة على أنها اليوم الثامن للخليقة، حيث خلق الله العالم في ستة أيام (ستة حقبات تاريخية)، واستراح في السابع (زماننا الحالي)، الذي ينتهي بالأبدية (اليوم الثامن - الذي هو يوم القيامة، بدء الأبد).
 
فالكنيسة بحسها الروحي الرفيع تسبق فتذيقنا عربون هذه الأبدية باحتفالها بالقيامة مدة خمسين يومًا، لا نصوم فيها، ولا نشتغل باحتفالات أعياد القديسين، ولا بأي طقس آخر سوى المسيح القائم الأبدي .. ثم بعد أن نتذوق هذه الأبدية، نعود إلى الزمان مُحملين برسالة إلهية إلى أهل العالم الزمني، لنشهد بعظمة وطهارة وخلود الملكوت الذي فينا.
 
ولئلا تتعوق شهادتنا هذه تعود الكنيسة لتسحبنا إلى الأبدية في اليوم الثامن من كل أسبوع (الأحد)، لنتذوق الأبدية من جديد في ليتورجية القداس الإلهي، حيث نتحد بالمسيح الذبيح القائم، ونعود ثانية إلى العالم لنشهد ببر الملكوت.
 
٢- الأحد – يوم الأبد:
فيوم الأحد – في الإنجيل والكنيسة – هو يوم الأبدية، لذلك ركز الإنجيل بتكرار مقصود على التعبير (باكرًا جدًا في أول الأسبوع – إذ طلعت الشمس). راجع (مت28: 1، مر16: 2، 9، لو24: 1، يو20: 1، 19).
 
وهذه الفصول اختارتها الكنيسة بطبيعة الحال لتُقرأ في ليلة عيد القيامة المجيد .. هنا الإنجيل يبرز صفتين ليوم قيامة المسيح:
 
أولاً: أنها باكر، وقد طلعت الشمس، مشيرًا إلى النور والبداية الجديدة.
 
وثانيًا: أنه أول الأسبوع أي بدء الدهر الجديد، بدء الحقبة الجديدة من الزمان – إن جاز التعبير أي بدء الأبد.
 
لذلك فقد تركت الكنيسة سبت اليهود، واتخذت يوم القيامة رمز للأبدية يومًا لاجتماعها الإفخارستي منذ العصر الرسولي "وفي أوَّلِ الأُسبوعِ إذ كانَ التلاميذُ مُجتَمِعينَ ليَكسِروا خُبزًا" (أع20: 7.)
 
ويؤكد على ذلك مُعلمنا بولس الرسول "في كُل أوَّلِ أُسبوعٍ" (1كو16: 2) مستخدمًا نفس التعبير الإنجيلي (أول الأسبوع).
 
إن يوم الأحد هو يوم الأبد، الذي فيه نتحد بالجسد، فتكون فينا قيامة المسيح وحياته إلى الأبد.
 
إذًا ليست القيامة – في ضمير الكنيسة- احتفالاً طقسيًا، ولا هي عقيدة فكرية، إنما هي حياة دائمة فينا، لأنها حياتنا كلنا وقيامتنا كلنا.
 
ونحن مدعوون أن نعيش قيامة المسيح بإحساس إنسان قام من (موت الخطية) بروح المسيح الذي فينا، ناظرين إلى فوق "حَيثُ المَسيحُ جالِسٌ عن يَمينِ اللهِ" (كو3: 1) .. فيصير القبر والموت والخطية خلف ظهورنا، والحياة الأبدية وبر القيامة بكل أمجادها أمامنا.
 
وهذا هو جوهر ومعنى الحياة المسيحية، القائمة على تغيير الإنسان صميميًا وتجديد طبيعته الساقطة الفاسدة.
 
٣- القيامة والمعمودية:
إن برهان صدق الحياة المسيحية هو القيامة التي يجوزها الإنسان في أعماقه، فيتغير تغييرًا جذريًا شاملاً يغير صياغة أفكاره وآماله، ونظرته للحياة كلها.
هذا التغيير نأخذ جذره في المعمودية المقدسة، حيث نولد ميلادًا جديدًا ينهي انتماءنا لآدم وحواء، ويمنحنا انتماء جديدًا للمسيح، فنصير (بني الله) بدلاً من (بني آدم).
 
وتمثله الكنيسة بصورة مبدعة، عندما يتجه المُعمَّد أو الإشبين نحو الغرب ليجحد الشيطان، ثم يتحول نحو الشرق ليعترف بالمسيح .. هذا التحول في الاتجاه من الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة – هو جذر كل تغيير في حياتنا فيما بعد، والذي نحققه باستمرار في التوبة والاعتراف، لذلك قيل أن دموع التوبة هي معمودية ثانية.
 
إن المعمودية هي موت وحياة، هي سر القيامة من الموت بجسد نوراني، هي تحقيق قيامة المسيح في حياتنا، هي قيامة داخلية سرية غير منظورة، تحدث في صميم هذا الزمان، لكي ترفع الزمان إلى مستوى الخلود والأبد، وترفع الجسد إلى مستوى الروح، وتعطي الإنسان إمكانية أن يذوق الملكوت وحياة الدهر الآتي وهو مازال في الجسد وتحن الزمان.
 
إنها القيامة الأولى التي تتحدى الموت، لأنها تمسك بالحياة الأبدية، "مُبارَكٌ ومُقَدَّسٌ مَنْ لهُ نَصيبٌ في القيامَةِ الأولَى. هؤُلاءِ ليس للموتِ الثّاني سُلطانٌ علَيهِمْ" (رؤ20: 6)، بل يصير الموت الثاني لنا نقطة انطلاق إلى أعلى (ليس هو موت لعبيدك بل هو انتقال)، لأنهم سبقوا أن جازوا الموت الأول في المعمودية، وقاموا مع المسيح بحياة جديدة أبدية.
 
إن القبر للإنسان المسيحي هو آخر معبر، وآخر قيد يفكه لنطلق إلى حرية مجد أولاد الله.
 
والكنيسة بوعي لاهوتي مبدع رتبت قراءات ليلة عيد القيامة، لتكشف لنا عن سر هذا التغيير الصميمي لحياتنا، وارتباطه بالمعمودية، وكذلك ارتباطه ذلك بقيامة المسيح، فتعلن لنا أن قيامة المسيح كانت باكورة لقيامتنا نحن (المسيح باكورة ثم الذين للمسيح "نحن" في مجيئه).
 
وتؤكد ضرورة هذا الموت في المعمودية (الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت) وأن جسد المسيح الذي مات ودفن وقام هو بذرة الكنيسة (الذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير "الكنيسة" بل حبة مجردة ربما من الحنطة وجسد المسيح) .. وأننا بالمعمودية نرث صفات المسيح بميلادنا منه "..... وكما لَبِسنا صورَةَ التُّرابي، سنَلبَسُ أيضًا صورَةَ السماوي" وذلك لأن "لَحمًا ودَمًا لا يَقدِرانِ أنْ يَرِثا ملكوتَ اللهِ، ولا يَرِثُ الفَسادُ عَدَمَ الفَسادِ ...." (فصل البولس) (1كو15: 23-50).
 
وفصل الكاثوليكون يؤكد نفس الحقيقة اللاهوتية، أن المسيح مات وقام "..... لكَيْ يُقَربَنا إلَى اللهِ، مُماتًا في الجَسَدِ ولكن مُحيىً في الرّوح ..... الذي مِثالُهُ يُخَلصُنا نَحنُ الآنَ، أيِ المَعموديَّةُ. لا إزالَةُ وسخِ الجَسَدِ، بل سؤالُ ضَميرٍ صالِحٍ عن اللهِ، بقيامَةِ يَسوعَ المَسيحِ ....." (1بط3: 15-21).
 
إن المعمودية هي دخولنا في الأبدية، إذ فيها نموت مع الذي غلب الموت ".....إذ لم يَكُنْ مُمكِنًا أنْ يُمسَكَ مِنه"، لأنَّكَ لن تترُكَ نَفسي في الهاويَةِ ولا تدَعَ قُدّوسَكَ يَرَى فسادًا..." (فصل الإبركسيس) (أع2: 22-28).
 
٤- القيامة والإفخارستيا:
لقد تحقق الحلم وتأكد الخبر، ولم تعد البشرية تتطلع إلى الأبدية كمعاني تجريدية خيالية، أو مستقبل غامض غير معروف كنهه، بل لقد صارت الأبدية فينا حقيقة واقعة خلال تلاقينا مع المسيح واتحادنا به بأكل جسده ودمه المحيين "مَنْ يأكُلُ جَسَدي ويَشرَبُ دَمي فلهُ حياةٌ أبديَّةٌ، وأنا أُقيمُهُ في اليومِ الأخيرِ" (يو6: 54). لأنه ليس جسدًا عاديًا، ولكنه جسد الحياة وجسد القيامة "أنا هو القيامة والحياة".
 
إن كل طاقات قيامة المسيح مذخورة في ذبيحة الإفخارستيا، ونحن نأخذها كل يوم بالتناول، فتصير فينا قوة قيامة المسيح ..
 
& "لأنَّ خُبزَ اللهِ هو النّازِلُ مِنَ السماءِ الواهِبُ حياةً للعالَمِ".
 
& "أنا هو خُبزُ الحياةِ".
 
& "هذا هو الخُبزُ النّازِلُ مِنَ السماءِ، لكَيْ يأكُلَ مِنهُ الإنسانُ ولا يَموتَ".
 
& "أنا هو الخُبزُ الحَيُّ الذي نَزَلَ مِنَ السماءِ. إنْ أكلَ أحَدٌ مِنْ هذا الخُبزِ يَحيا إلَى الأبدِ. والخُبزُ الذي أنا أُعطي هو جَسَدي الذي أبذِلُهُ مِنْ أجلِ حياةِ العالَمِ".
& "إنْ لم تأكُلوا جَسَدَ ابنِ الإنسانِ وتشرَبوا دَمَهُ، فليس لكُمْ حياةٌ فيكُم".
 
& "فمَنْ يأكُلني فهو يَحيا بي".
 
& "مَنْ يأكُلْ هذا الخُبزَ فإنَّهُ يَحيا إلَى الأبدِ". راجع (يو6).
 
صديقي الشاب ..
لاحظ كيف أكّد وكرّر ربنا يسوع أن سر قيامته وقوة حياته قد ذخرها لنا في جسده الذي نأكله كل يوم في الإفخارستيا، فتتجدد فينا باستمرار قوة القيامة وتصير فينا قوة لغلبة موت الخطية، وفشل إبليس وميول الطبيعة الفاسدة الرديئة، وهذه النصوص الإنجيلية تتكرر كثيرًا في قراءات فترة الخمسين المُقدسة بالكنيسة.
 
مغبوط هو المسيحي القائم مع المسيح لأنه دائمًا منتصر بنعمة المسيح.
 
٥- القيامة هي سر فرحنا:
لذلك فالمسيحي مدعو دائمًا للفرح "فرَحوا في الرَّب كُلَّ حينٍ، وأقولُ أيضًا: افرَحوا" (في4: 4)، لأن ينبوع فرحنا هو قيامتنا في المسيح، وبهجة الحياة التي أضاءها وجه المسيح القائم من بين الأموات لا يمكن أن تزعزعها أتعاب أو ضيقات أو مشاكل الحياة، وفرح الإنسان العائش في بهجة القيامة هو فرح سماوي لا يستطيع أحد أن ينزعه منه، كوعد المسيح الصادق "ولكني سأراكُمْ أيضًا فتفرَحُ قُلوبُكُمْ، ولا يَنزِعُ أحَدٌ فرَحَكُمْ مِنكُمْ" (يو16: 22)، لأنه فرح لا ينشغل بتفاهات العالم القابلة للتغيير والفقدان، بل هو فرح مبني على ما هو فوق "إنْ كنتُم قد قُمتُمْ مع المَسيحِ فاطلُبوا ما فوقُ، حَيثُ المَسيحُ جالِسٌ عن يَمينِ اللهِ" (كو3: 1)
 
وهو فرح ينزع إلى العطاء لا إلى الأخذ "مَغبوطٌ هو العَطاءُ أكثَرُ مِنَ الأخذِ"(أع20: 35)، فالإنسان الذي يعيش بروح القيامة، يفقد طموحه الشخصي الأناني المريض، وتشتعل فيه رغبة عارمة في إسعاد الآخرين، والدفاع عن حقوق المظلومين، وإشباع الجائعين، وإرشاد الضالين وذلك بسبب حضور المسيح (الخادم) فيه "كيْ يَعيشَ الأحياءُ فيما بَعدُ لا لأنفُسِهِمْ، بل للذي ماتَ لأجلِهِمْ وقام"َ (2كو5: 15).
 
هنا يكمل فرح المسيحي وسعادته وغبطته، وتصير القيامة فينا ذات معنى لنا ولكل البشرية من حولنا، وهذا هو سر ترتيل الكنيسة في ليلة العيد .. "هذا هو اليومُ الذي صَنَعُهُ الرَّبُّ، نَبتَهِجُ ونَفرَحُ فيهِ" (مز118: 24)