بقلم: أحمد الجمال

أحاول تحري بعض الموضوعية في الكتابة عن قضية مستقبل سيناء، الذي طرحه صلاح دياب، الشهير بنيوتن، في المصري اليوم. ذلك أنني ممن يكتبون في تلك الصحيفة، وتربطني بالمهندس دياب علاقة أدنى من الصداقة وأعلى من مجرد "المعرفة"، وكلانا يحترم الاختلاف الجذري بيننا في بعض القضايا، والاتفاق في قضايا أخرى، وإن لم يخلُ ذلك الاختلاف الجذري من تندر و"تنبيط" متبادل! في تصوري أن نيوتن ليس حالة فردية وإنما هو تعبير متقدم "هجام" لشريحة اقتصادية اجتماعية سياسية، لها فكرها ومنهجها الذي يعظّم بل يقدّس دور الفرد المفرد في كل جوانب الحياة، ويقدّس الربح والمنفعة، اللذين تتلاشى في سبيلهما أي حواجز وموانع وحدود، وتتضاءل الضوابط، حتى وإن كانت تلك الحواجز هي ما يسميه كثرة كاثرة من أهل الفكر والثقافة والسياسة الثوابت الوطنية وقوانين حركة التاريخ المصري منذ فجره العتيق في عصر ما قبل الأسرات إلى توحيد الشمال والجنوب في عصر "مينا نعرمر"، وإلى الآن، مرورا ببقية عصر الأسرات، وحتى فترات الحكم الأجنبي الإغريقي والروماني والعربي والمملوكي والفرنسي والبريطاني، وإلى الحكم المصري الوطني الخالص بعد 1952.
 
الشريحة التي يعبر عنها نيوتن، بل ويعد رأس رمحها المتقدم، وبحكم أن معظمها أو كلها ممن يسمون "رجال الأعمال"؛ تعادي مركزية الدولة وربما الدولة المركزية، وتعادي دورها في الاقتصاد، وتخاصم- بضراوة متجددة وشرسة- مراحل بعينها في تاريخ مصر المعاصر، خاصة ثورة يوليو وفلسفة ومنهج حكم الرئيس عبد الناصر، ولا بأس لديها من الاستعانة بالشيطان نفسه، وبمن هو في مرتبته عند الوجدان المجتمعي المصري- أي إسرائيل والولايات المتحدة خارجيًا، والإخوان المسلمين والسلفيين داخليًا- في سبيل مزيد من التمكين لمصالحها ومزيد من التراكم في مكاسبها، بل والأكثر لفتًا للنظر أنها وهي تعادي مركزية الدولة وتعتبرها معوقًا للانطلاق رأيناها تتواطأ مع البيروقراطية المصرية على إحراز مكاسب ومراكمة أصول، كالأراضي ومصانع وشركات القطاع العام، التي صفيت في عمليات شاب معظمها أو كلها إفساد وفساد هائلان.
 
ثم إن ما طرحه نيوتن عن سيناء لا ينفصل عن ذلك الذي تردد وكتب عنه كثيرًا، وهو الرؤية الأمريكية لتفكيك الدول المركزية العريقة في الشرق الأوسط، لتتحول إلى فيدراليات أو كونفدراليات، ونجح هذا التخطيط في أهم بلدين مع مصر، وهما العراق وسوريا، وربما لن يطول الوقت ويعلن أن العراق جمهورية فيدرالية، وسوريا كذلك، على غرار الطراز السياسي الأمريكي، ويتضمن هذا الطرح أيضًا استقلال الثقافات الفرعية وبدلًا من أن تكون تنوعًا في كلٍّ واحد وطني عريق، تتحول إلى ثقافات مستقلة.
 
ومن شدة السعي للنموذج الأمريكي لم يذكر نيوتن ولا من يمثلهم شيئًا عن المواطنين المصريين من أهل سيناء، التي يمكن أن تلحق بها- وفق التصور الذي طرحه نيوتن- الصحراء الغربية والجنوب في مناطق النوبة وامتداداتها، خاصة جهة الشرق حتى البحر الأحمر، ومن عجب في هذا السياق أن تلك الشريحة لا تتمثل بالدولة الصهيونية رغم انبهارهم وتعاونهم معها، بالنموذج الصهيوني، الذي خلق دولة من لا شيء، اللهم إلا الأسطورة التوراتية، ويسعى بكل جهده لتدعيم هذه الدولة بالقوة والتسلح النووي، وبالعلم والبحث العلمي، وبالتهام حقوق وأراضي شعوب أخرى، وهناك يسمح لكل الفرقاء في السياسة والمذهب الديني وغيره بالاختلاف والتصادم، إلا عندما يتصل الأمر بوحدة إسرائيل وقوتها وتفوقها على كل جيرانها مجتمعين.
ومن عجائب أو مصائب تلك الشريحة الاقتصادية- الاجتماعية بفكرها وثقافتها وممارساتها وأهدافها، أنها تسعى عمدًا- ومع سبق الإصرار- لنسف كل ما أسماه الوجدان الوطني المصري الجمعي "ثوابت ومقدسات وطنية"، خاصة ما يتصل بمقاومة الاحتلال والعدوان الأجنبي، ومقاومة الاحتلال الإرهابي، الذي فاق الاحتلال الأجنبي عنفًا وتدميرًا، ولنأخذ نموذجًا الإصرار على نسف تاريخ ودور بورسعيد وشعبها وتحويلها إلى نموذج انفتاحي استهلاكي، بعد أن كانت نموذجًا للصمود والقتال والفداء، والتعامل مع مدينة أو محافظة كالسويس بإهمال متعمد، وكأنه عقاب لها على دور رجالها ونسائها في صد الصهاينة عام 1973، وقبله في عام 1956، لدرجة أن تاريخ المنطقة يؤرخ له بما قبل السويس وما بعد السويس، إشارة إلى العدوان الثلاثي.
وفي اعتقادي أنهم يسعون للأمر نفسه مع سيناء، التي أضافت لدورها وصمود أهلها في 1956 و1967 و1973 وهناك صفحات نورانية خالدة، سطرها أهل سيناء في تلك المراحل، أضافت صمودها في وجه الإرهاب وكانت الساحة العظيمة التي تمكن فيها جيش مصر من قهر ودحر الاحتلال الإرهابي الرهيب.. وواضح أنهم لا يريدون معزوفة وطنية تحررية جديدة مرتبطة بسيناء، وهم ما صدقوا أنهم تخلصوا من معزوفات التل الكبير وبورسعيد والسويس وغيرهم، ولذلك نراهم يسخرون من "المشاعر الثورية والأغاني الحماسية".
 
وفي هذا السياق أذكر أن عبد المنعم سعيد، رئيس مجلس إدارة المصري اليوم، التي يمتلكها المهندس صلاح دياب، الشهير بنيوتن، ردد العبارة التي كتبها دياب عن الأغاني الحماسية، عندما كنا في جلسة بالصالون الثقافي للسفير السعودي السابق أحمد القطان، وكان سعيد هو المتحدث الذي يعرض ويناقش رؤية السعودية 2050، وعندما سألته عن احتمالات التقاطع بين الدور السعودي والدور المصري وكيف نعالجه مبكرًا، بحكم حتمية وجود علاقة متميزة بين البلدين، كانت إجابته بالنص تقريبًا: "أي دور مصري تتحدث عنه.. الأدوار لا تصنعها أغاني عبد الحليم"!
 
إنهم يتحسسون حتى من الأغنية، أي الموسيقى والكلمات والأداء، طالما فيها إحياء أو إشادة بدور وطني وإيقاظ للوعي الشعبي الوطني والتحرري.. ويتعامون تمامًا عن أن الغناء جزء من القوة الناعمة للأوطان، وهي القوة التي طالما نادى بإحيائها جميع المدركين لدور وطننا في محيطه وفي العالم.
دعونا نناقش الأمر من جذوره، ونسأل: هل المطروح هو نسف الدولة المركزية التي وحّدها مينا قبل ما يزيد على خمسة آلاف عام؟ وكيف ننفذ هذا النسف؟ وهل المطروح طمس ونسيان أي رصيد وطني راكمه المصريون بشهدائهم من القوات المسلحة والشرطة وبقية الفئات، لأن بقاء هذا الرصيد والتغني به سيترتب عليه التدقيق في التعامل مع الشيطان، وهل هناك أمم معاصرة دمرت رصيدها الوطني وما تضمنه من فنون وآداب؟
 
وأخيرًا وليس آخرًا هل لدى شريحة ما يسمى تجاوزا "الرأسمالية المصرية" نموذج تقدمه داخل مصر غير إجهاضها النتائج الاقتصادية والاجتماعية لحرب 1973، وغير رفضها التعاون مع الدولة في بناء اقتصاد وطني قوي، وقد حدث ذلك في الخمسينيات ويحدث الآن، وحتى ومع فرصة الانفتاح أواسط السبعينيات كانت القاعدة: اخطف واكسب واركض أو "اجرى"!