زهير دعيم 
قرب البحيرة الزرقاء الجميلة, والممتدة في أحضان الطبيعة الخلاّبة, عاشَ صيّادُ السمك"أبو فوّاز" وزوجته وأولاده, في بيت مُتواضعٍ, عيشةً هانئةً سعيدة, وكانوا طيّبي القلوب , ومُقتنعين بالحياة .
 
  أتقنَ الصّيّادُ مهنته اتقاناً, فكان يصطاد يومياً بشبكته كميّة من السمك , قد تزيدُ وقد تنقص, حسب الظروف والفصول...يذهب بها , في ساعات العَصْر إلى السّوق, يبيعُ مُعظمها , ويشتريَ بأثمانها ما يحتاج إليه من لوازم واحتياجات ِ البيت, أمّا ما تبقّى فكان يُعطيه عن طيبِ خاطر , للفقراء والمُحتاجين, الذين كانوا دائماً يدعون لهُ ولزوجته ولأولاده بطولِ العُمْر .
 
  في أحد الايام الربيعيّة , وكعادته في كُلّ صباحٍ , حَمَلَ الصّيّادُ شبكته , وتوجَّه نحو البُحيرة ...وألقاها مرّةً ومرّات , فحالفه الحظُّ , وفازَ بكميّةٍ كبيرةٍ من الأسماك , فشكرَ ربَّه , وقرّرَ في نفسه, أنْ يزيدَ في هذا اليوم حِصَّةَ المُحتاجين .
 
  وصَلَ السُّوق , فوجده يغُصُّ بالناس , فباع أسماكه بسرعة , وبسعرٍ معقولٍ , وأعطى حصّةً لا بأسَ بها للفقراء والمساكين.
 
  أعطى "لأبو ابراهيم " الكثير الاولاد , ولجميل المُتسوّل الأعمى , ولعجوزٍ تجلس في الزّاوية , وحولها طفلانِ صغيرانِ حافيانِ , ..أعطاهم والفرحةُ تملأُ قلبه, ثُمَّ اشترى ما يحتاجُ اليه منَ السّوق , وعاد الى بيته.
 
   استقبلته زوجته وأولاده , بالتّرحاب والتَّهليل , وخاصّةً يُوسُفُ الصّغير ابن السّنوات السِّت , والذي راحَ يُفتّشُ في أمتعته...فهو ينتظرُ طيّارةً ورقيّة مُلوّنةً , وَعَدَهُ بها أبوه ...فضحك الصّيّاد وقال : " آه مِنكَ ...انّكَ لا تنسى شيئاً, الطّيارةُ في الحقيبة الثانية "
 
...فكاد يوسف الصّغير يطيرُ من الفرح .
 
  استحمّ الصّاد , ولبس ملابسه النظيفة المُرتّبة , وجلسَ حول المائدة مع عائلته الصّغيرة , لتناوُل طعام العَشاءِ اللّذيذ, وفجأةً قُرِعَ  الباب , فقامَ الابن الأكبر فوّاز , وفتح الباب , وإذا برَجُلٍ غريب يقفُ هناك , فدعاه الفتى للدخول قائلاً : "تفضَّل ..مَنْ تريدُ ؟"
 
  فتلعثمَ "ابو ابراهيم " قائلاً : " أليسَ هذا بيت الصّيّاد الطّيّب أبي ابراهيم ؟ " 
 
  نعم أجاب فوّاز , ومن أنتَ ؟! ..أنا أبو ابراهيم من السّوق , وأبوكَ يعرفني ...
 
  وما كاد َيُتمُّ أبو ابراهيم كلامه , حتّى وجدَ الصيّاد أمامه , مُرحِّباً به بحرارة , وهو يقول له :  أهلاً وسهلاً ...شرَّفْتَ بيتَنا يا أبا ابراهيم ... تفضّلْ فالعَشاءُ ينتظرك...لا  تقُلْ لي أنّكَ شَبِعٌ..
 
  اعتذرَ أبو ابراهيم وقال : انّهُ خَجِلٌ, لأنّهُ حضَرَ وفي هذا الوقت بالذات, ودونّ سابق انذار ...فَرَجا أبا فوّاز بأنّ يأخُذَ من وقته دقائقَ معدودات , بعد أنْ وَقَعَ أمْرٌ هامّ...
 
  لكنَّ الصّيّاد الطّيّب , أبى أن يسمعه قبل أن يُشاركه الطَّعام .
 
 انصاعَ  ابو ابراهيم للأمر , فشاركَ العائلة العَشاءَ, واحتسى معهم كُوباً من الشّاي السّاخن, ثُمَّ مسَحَ لحيته بيديه الخشنتين  وقال : كَمْ أنتَ طيِّبٌ يا أبا فوّاز !! انّ كرمَكَ يغمُرني , ويغمر الكثير من فقراء السّوق , ونواياكَ الطّيّبة يعرفها جميع الناس.
 
  لقد أعطيتني يا صديقي, عَصْرَ هذا اليوم ثلاثَ سمكات , وكمْ تعجّبنا واندهشنا , حينَ وجدْنا في احداها خَاتَما ًثميناً...تشاورْت مع زوجتي , فوجدنا أنّه من العدْلِ والحقِّ’ أن نُعطيَكَ هذا الخَاتَم , لأنّكَ الصّاحب الأصليّ لهذه السّمكات...فاسمحْ لي يا أبا فوّاز , بأنّ اُقدَّم لَكَ الخَاتَمَ.
 
  أخرجَ أبو فوّاز الخاتَمَ من جيبه , فإذا هو خَاتَمٌ ثمين, مُرصَّعٌ بجوْهرةٍ نادرة , رفَضَ أبو فوّاز قبول الخاتم , ولكنَّ أبا ابراهيم أصرّ على ذلك ...فدارَ حِوارٌ لطيف بينهما .فتدخَّلت اُمّ فوّاز , واقترحت عليهما , أن يحتكما إلى القاضي.
 
  وكانَ القاضي مشهوراً بالعدل والحِكمةِ والخُلقِ الحَسَن .فاستحسنا اقتراحها , وأسرعا الى بيت القاضي , الذي استقبلهما استقبالاً حارًّا.
 
  عَرَضا عليه المُشكلة ...فقالَ مُبتسماً : لِلهِ ..ما أطيّبَ قلبيكما ! وما أروعَ نواياكما ! فرغم الفَقر الذي تعيشانه , فما زالَ الضّمير حيًّا في داخلكما .
 
  أخرجَ ابو ابراهيم الخاتم من جيبه , وعندما رآهُ القاضي تعجَّبَ وقال : انّه خاتمي , خَاتَم القَضاء الذي سقَطَ منّي , قبل عدّة أشهر , في البُحيْرة الزّرقاء ...اُنظرْ يا أبا ابراهيم وقُلْ لي : هل هناكَ نَقْشٌ باسمي في قلب الخاتم ؟ .
 
  نظر ابو ابراهيم الى الخاتم , وسرعان ما صاحَ وقال : نَعَم ْ يا سيّدي القاضي ...انّهُ يحملُ اسمَكَ الكريم ...انّني مُتعجِّبٌ !!كيفَ قادَنا القَدَرُ إلى هنا حتّى نُعيدَ لسيّدي القاضي خاتمه الشَّخصي..كمْ أنا مسرور بذالك .
 
 وكَمْ كانت فرحة أبي فوّاز بعوْدة الخاتم لإصبع القاضي العادل.
 
  شكرَ القاضي الصّيّاد وصديقه , وأمرَ خادمه بالمُثول بين يديه, وأمرَهُ على مَسمعٍ منهما , بأن يذهبَ إلى صائغ] مشهورٍ , ليشتريَ لكُلِّ واحدٍ منهما , خَاتَماً ثميناً , مُرصّعًا بجوهرةٍ ثمينة ...
 
 رفَضَ الصّديقان ... ولكنَّ القاضي أصرَّ على ذالك قائلاً : إنكما تستحقّانِ جائزتيْنِ , على طِيبِ نواياكما وحُسْنِ أخلاقكما .