بقلم: أندرو اشعياء
«يا ولدي أرجوك نحن في قرطاجنة والعِلم هنا على قدر عالي؛ فما الداعي لسفرك الى روما..هنا كان ترتليان العلامة العظيم، وايضًا كان اسقفها كبريانوس الاسقف والشهيد الملتهب.. هنا تقدست الارض بدماء الشهيدة يوستينا .. »
 
قاطعها الشاب العنيد بنبرة خشنة تُذيد من آلم أم أرملة ألم أكثر مما عانته من عناد زوجها الوثني الذي اُجبرت على الزواج منه!: «مَن قال أن هؤلاء كانوا على حق أو أن الحياة هنا أو الدراسة تناسب ثقافتي او مؤهلاتي ؟! في روما الفلسفة افضل من ههنا .. هنا الإهمال وعدم تقدير المواهب .. هنا ضعف وركاكة الفلسفة.. هنا ... هنا ..»
 
نظرت اليه الام المغلوبة على امرها - اثناء استرساله - نظرة فيها استحسان او قل نظرة لا يعرف معناها سوى الام الثكلى التي فقدت! .. نظرة فكرت فيها سرًا «إن كنت وانت ههنا جرفتك عواصف الرذيلة فكم وكم في روما حيث الإلحاد الذي يطل من شرفته اليك وانت تستحسنه؟!»
 
شعرت وهي تفكر أنها أمام امر لا يحتاج التفكير؛ فقادها لسانها سريعًا الى ان تقاطعه: «يا ابني لماذا تقسوو علئ كثيرًا هكذا .. ألا يكفيك جدالنا الليلة البارحة وايضًا سفرنا من المدينة الى الساحل لتستقل السفينة صباح غدًا .. لماذا لا تشفق علئ وانا في احتياج اليك! .. هل احشاءك لا تئن عليك في تركك اياي هكذا ؟! تعال معي قريبًا من ههنا توجد كنيسة ندخل اليها لنفكر في امرك هذا»
 
امسكته من يده لا لتقوده برغم عناده! ولكن لتشعر بالامان .. ولكن حرارة قلبها اخذت تناشدها «وهل تشعرين بالآمان وهو في يدك يفعل مرضاتك دون ان يعرف الله ولا يرضى بتوبتة مسرة الله؟ » فأخذت تدمع بمرارة مما جعل ابنها - أغسطينوس - يسير معها
 
دخلا سويًا الى الكنيسة فتقدمت نجو الهيكل وهناك ركعت، ودفنت وجهها بين يديها وانسكبت في بكاء مرّ وصلاة طويلة وتفكيرًا مليًا عسى أن يرتاح قلبها من جهته او يتخشع هو! «يارب انت تعلم انني امام مشكلة العُمر.. يارب انت تعلم انني امام مشكلة العُمر.. لا تتركه ولا تتركني .. » صلت كثيرًا وبكت اكثر، جال فكرها في ماضي ابنها فتذكرت موقف ذهابه مع اصدقائه لسرقة ثمار الكمثرى من جيرانهم مع ان حديقة والدة كانت مليئة بالثمار! .. ومعظم الثمار التي سُرقت ألقوها للخنازير، فلم يكن الدافع الاحتياج بقدر ما كانت غريزة الاعتداء وعبث الشباب!
 
تذكرت نقاشاته التي كان يوجهها للبسطاء ليشككهم في ايمانهم وموقف اقربائه قانعين بعدم جدوى الارشاد مع اغسطينوس ما دامت نفسه غير مستعدة.. تذكرت الرؤيا التي كانت فيها حزينة جدًا ودموعها تنساب بغزارة فاقترب منها طفلا مُبهجا وقال لها: «لماذا تبكين؟ » فأجابت «من اجل ضياع ابني» فرد: «ابنك ها هنا معنا .. حيثما تقفين يقف ولدك ..» فاستدارت حولها فوجدته مشرقًا!
 
وفي تفكير ممزوج بالالم كان النعاس هو سيد الموقف عليها ولكن لبعض الدقائق التي فتحت في اخرها عيناها لتتفاجأ ان ابنها ليس بجوارها! انتابتها قشعريرة وصدمة مُريبة.. «تُرى هل خرج لفناء الكنيسة؟ » خرجت في خطوات لم تستطع فيها أن تُسابق قلبها نحوه فيما كان بريق الامل لايزال يراودها.. لاقتها رياح اشعرتها بوهن جسدها وشدة محنتها .. لم تجده! فانطلقت نحو الميناء.. وفي اثناء سير اقدامها السريعة التي لا تعرف كيف حملتها! رددت كثيرًا: يارب ارحمني .. شعرت أن قضية خلاص ابنها مقترن بخلاصها هي ذاتها فراحت تُسرع اكثر واكثر، وان الله سيسألها عن هذة النفس الضعيفة!.. تذكرت الابن الضال الذي عاد وابيه ينتظره ولكن الان الابن الضال يضل اكثر!
 
حقًا ما اجمل النفس البشرية التي التهبت وعرفت وقدرت قيمة النفس الواحدة!
 
اتجهت نحو السفينة فوجدت رجال على البرّ يهرولون مُسرعين وهم حاملين المشاعل الحمراء في أيديهم، وابواق السفينة تعلن عن قُرب اقعلاها؛ وبينما كانت أنوار السفينة تعكس اضواء مصابيحها على عيناها فيُخيل للناظر من بعيد اليها ان اشباح تجري! كانت ضوء فكرها يعلن بخفيةٍ انه اكثر استنارة!
 
وصلت للسفينه تلهث أنفاسها فمنعوها من الصعود لأنها ليست مُسجلة بالكشوف فسألتهم عن ابنها فأجابوها بالصاعقة انه استعجل سفره ورحل في السفينة التي غادرت منذ قليل وليس هذة! فسقطت خاوية على الارض مُردده سأرسل خلفك وامامك صلواتي!