بقلم أحمد حسن بلح 

الهدوء النفسي في «زمن كورونا».. لا داعي للذعر ولكن احذروا

Credit: Public Domain CC0

تغمرنا وسائل الإعلام يوميًّا بتوصيات من شأنها الحفاظ على صحتنا في ظل الانتشار السريع والمباغت لفيروس كورونا المستجد. سيل من النصائح من قبيل: اغسل يديك بالماء والصابون لمدة 20 ثانية على الأقل، الزم بيتك وتجنَّب التجمعات الكبيرة. فلا حديث الآن غير حديث "فيروس كورونا" الذي سيطر على جميع الأجواء والمجالات، حتى قيل إنه احتل الطرقات وسكن الأسطح وجدران البنايات، محاصرًا ابن آدم الذي وقف أمامه مذعورًا، قليل الحيلة، ومعدوم الصلاحية حتى إشعار آخر. وبذلك أصبح بقاء بلايين البشر حول العالم في منازلهم ضرورةً حتمية، استجابةً للتنبيه العالمي المتزايد للحد من الانتشار السريع لهذا الفيروس العجيب المراوغ.

ومع دوام تلك الحال دون معرفة موعد محدد لعودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل "كورونا"، تزداد الضغوطات، ويعاني الكثيرون من عدم القدرة على التكيُّف مع الظروف الراهنة. فما يطلبه منا المختصون ومسؤولو الصحة من ضرورة "التباعد الاجتماعي" ليس أمرًا سهلًا؛ إذ يتنافى مع الطبيعة البشرية، "فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه".

فما المقصود بالتباعد الاجتماعي؟ ولماذا أصبح حتميًّا؟ وما الآثار النفسية والاجتماعية التي قد تترتب عليه؟ وكيف يمكن للبشر التعامل الإيجابي معه مع تجنُّب آثاره السلبية؟

آثار التباعد الاجتماعي

التباعد الاجتماعي هو ببساطة تجنُّب التجمعات والاتصال الوثيق بالآخرين. ويعتبره الخبراء في مجال الصحة أمرًا بالغ الأهمية لإبطاء وتيرة انتشار الفيروس، وتفادي إرهاق نظم الرعاية الصحية، وربما حمايتها من الانهيار في حالة ارتفاع معدلات الإصابة إلى مستوى لا يمكن التعامل معه بكفاءة. ولكن كيف لنا أن نتكيف مع هذا الظرف الطارئ مع تجنُّب أي آثار سلبية على النفس أو المجتمع؟ 

إحدى الدراسات العلمية -قليلة العدد- التي أجريت حول هذا الأمر، هي دراسة مرجعية أجرتها عام 2015، جوليان هولت- لونستاد، باحثة علم النفس في جامعة بريجهام يونج الأمريكية، وزملاؤها، وارتكزت على عمل تحليل بعدي Meta-Analysis لنتائج عدد من دراسات سابقة حول آثار العزلة الاجتماعية المزمنة. تقول "هولت– لونستاد": إنه فيما يتعلق بالآثار السلبية التي قد يسببها التباعد الاجتماعي، تجاوبًا مع جائحة فيروس كورونا المستجد، "سيظل الأمر بمنزلة سؤال مفتوح"، مضيفةً أن لديها في هذا الصدد فرضيتين تتنافسان، فهي قلقة من أن يؤدي ذلك إلى تفاقم الأمور بالنسبة لأولئك الذين يعانون فعليًّا من مشاعر العزلة والوحدة، ولكنها تشدد -في الوقت ذاته- على أنه قد يكون نقطةَ تحفيز لآخرين على التواصل المجتمعي، مفسرةً ذلك بأن الاحتمال الأكثر تفاؤلًا هو أن الوعي المتزايد بطبيعة الوباء سيدفع الناس إلى البقاء على اتصال واتخاذ إجراءات أخرى إيجابية. ولكنها تعود وتستطرد بقولها: "نود أن نجمع بيانات عن ذلك".

من جانبه، يوضح هاني هنري -أستاذ مشارك في قسم علم النفس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة- طبيعة ما يمر به الناس من ظرف غير مألوف، قائلًا: بالنسبة للبعض تكمن المشكلة في فكرة الحرمان من شيء، مثل عدم القدرة على الذهاب إلى المساجد أو الكنائس، أو عدم القدرة على الخروج أو زيارة الأهل، أو عدم التيقن مما سيحدث غدًا، مشددًا على ضرورة حماية الإنسان لنفسه ولجهازه العصبي عن طريق تحديد ما يؤثر به وما لا يؤثر به، حتى لا يصل الحال بالشخص إلى التأثر بأي شيء أو كل شيء.

وكما جاء في حلقة النقاش الإلكترونية التي عقدتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة في 6 أبريل 2020: "عندما يكون هناك أزمة بهذا الحجم، لا بد من تقييم علمي لها. يجب أن نسأل أنفسنا: ما هو أكثر شيء يؤثر بنا؟ ونحدد نوع المشاعر التي نشعر بها، هل هي خوف؟ ممَّ نخاف؟ لا بد أن يفهم الإنسان طبيعة ردة فعله وطبيعة الإحساس الذي يشعر به، مشددًا على ضرورة معرفة أن هناك أشياء لا يمكن للإنسان أن يتحكم بها، مثل توقع ما سيحدث غدًا، "يمكنني فقط التحكم في أسلوبي أو انتقائي للأخبار التي أستمع إليها"، ويضيف: "لا بد من إدراك أن ما يؤثر سلبًا علينا هو محاولتنا فعل أشياء ليست في مقدرتنا".

الفئات الأكثر عرضةً للتأثر

يوضح كريس سيجرين، عالِم سلوكي في جامعة أريزونا الأمريكية، أن هناك تنوعًا هائلًا في قدرة الناس على التعامل مع العزلة الاجتماعية والشعور بالتوتر، قائلًا إنه من المهم أن نتذكر أنه ليس كل مَن يخوض الأزمة الحالية يكون بمستوى الصحة العقلية ذاته، مشددًا على أن الشخص الذي يعاني بالفعل من مشكلات مع القلق الاجتماعي، والاكتئاب، والشعور بالوحدة، وتعاطي المخدرات، أو غيرها من المشكلات الصحية، سيكون أكثر عرضةً للتأثر بإجراءات التباعد الاجتماعي على نحوٍ سلبي.

ومن جانبها، تقول "هولت- لونستاد": إن الناس من جميع الأعمار معرضون للآثار السيئة للعزلة الاجتماعية والوحدة. لكن تقريرًا حديثًا صادرًا عن الأكاديمية الوطنية للعلوم الأمريكية (شاركت هولت- لونستاد في تأليفه) سلط الضوء على بعض الأسباب التي تجعل "كبار السن هم الفئة الأكثر عرضةً للتأثر بالأزمة"، كفقدان الأجواء الأسرية والافتقار إلى الأصدقاء، والإصابة بالأمراض المزمنة والإعاقات الحسية التي قد تعوق التفاعل مع الآخرين، مثل فقدان السمع أو البصر.

يؤكد هاني هنري ضرورة تآزُر الأسر في مثل هذه الأوقات الصعبة، وخاصةً أن المرأة العاملة والزوجة حاليًّا تتحمل الكثير من الضغوطات، لذا شدد على ضرورة تقديم المساعدة للأمهات والزوجات في المنزل وإظهار التقدير لهن. وعن العاملين بالقطاع الطبي ومدى تأثرهم النفسي في أثناء جائحة الكورونا، قال "هنري": "لا بد من الاعتراف بالدور البطولي للقطاع الطبي، فهم حاليًّا داخل الحدث كمَن هم في حالة حرب، لن يكون لديهم وقت بالضرورة لمراعاة حالتهم النفسية، لذا لا بد من الاهتمام بحالتهم النفسية بعد هذه الأزمة، فقد يعاني بعضهم من اضطراب ما بعد الأزمة. وشدد على أنه: يمكننا حاليًّا الاستمرار في دعمهم وتشجيعهم معنويًّا من خلال المبادرات التي يقوم بها الأفراد حول العالم، مثل التصفيق لهم في توقيت محدد كل يوم، وتسليط الدور على جهودهم كمثال.

التواصل الإلكتروني في زمن "كورونا"

بعد شيوع أمر التباعد الاجتماعي ليصبح مطلبًا عالميًّا، سارع العديد من الباحثين لدراسة الأمر من جميع جوانبه، خاصةً فيما يتعلق بدراسة الاضطرابات التي يمكن أن يُحدثها ذلك الفيروس وتأثيرها على حياتنا، ومن ذلك التأثيرات الاجتماعية والنفسية وكيفية التخفيف من الآثار السلبية لذلك. وهناك العديد من التساؤلات تحتاج إلى إجابات شافية على وجه السرعة ذاتها التي يعتمدها هذا الفيروس الغريب الخفي في اجتياز الحواجز الدولية وجميع الدفاعات البشرية. ومن ذلك: هل من دور حقيقي لأنماط التواصل الإلكتروني التي تجتاح كل مكان في العالم الآن في هذه المعركة غير المتكافئة؟ وهل يمكن للتكنولوجيا المساعدة على تعويض بعض سلبيات التباعد الاجتماعي؟

هل يمكن أن تساعد تطبيقات الرسائل النصية والبريد الإلكتروني والحوارات والاجتماعات الإفتراضية بين الأصدقاء أو زملاء العمل على البقاء في حالة اتصال مع المجتمع المحيط بنا. يقول نيكولاس كريستاكيس، عالِم اجتماعي وطبيب في جامعة ييل الأمريكية: "نحن محظوظون لأننا نعيش في عصر تساعدنا فيه التكنولوجيا على رؤية أصدقائنا وأفراد عائلتنا والاستماع إليهم، حتى عندما تتباعد المسافات بيننا".

ومع ذلك، فإن أنماط التواصل الإلكتروني هذه لا يمكن أن تحل محل التواصل وجهًا لوجه، كما يقول "سيجرين"، الذي يؤكد أنه "عندما نتواصل مع أشخاص آخرين، فإن الكثير من المعاني التي يتم نقلها لا تنقل عبر الكلمات فقط، ولكن في التعبيرات غير اللفظية". إذ يمكن أن تضيع التفاصيل الدقيقة للغة الجسد وتعابير الوجه والإيماءات مع استخدام الوسائط الإلكترونية، مشددًا على أن وسائل التواصل الإلكتروني "أفضل كثيرًا جدًّا من عدم التواصل".

الانفعال الجماعي

قبل مئة عام، استخدم عالِم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم عبارة "الانفعال الجماعي" لوصف الإثارة العاطفية المشتركة التي يمر بها الناس خلال الاحتفالات الدينية. ينطبق المفهوم ذاته على الأحداث الرياضية؛ إذ يعاني المتفرجون في الوقت نفسه من صعود المشاعر وهبوطها في أثناء اللعبة، كما يقول ماريو سمول، عالِم الاجتماع في جامعة هارفارد. ويوضح: "إنها تضخم الإحساس بشكل كبير بالنسبة لك في حين تعمل أيضًا على تعزيز فكرة أنك أكبر من نفسك"، مضيفًا أن مثل هذه الأحداث تساعد على بناء التماسك، وعلى الرغم من أنه لا أحد يتوقع أن ينهار المجتمع لمجرد أن البطولات الرياضية علقت مواسمها، فبالنسبة للعديد من محبي الرياضة وعشاق الموسيقى ورواد المهرجانات، فإن القائمة المتزايدة للأحداث الملغاة كانت تمثل آليةً للتأقلم مع أعباء الحياة، وسيتعين عليهم العيش مؤقتًا من دونها.

وتقول هولت- لونستاد: "يمكن لأي شخص منَّا أن يلتقط هاتفًا ويتصل لرؤية ما يفعله الناس وما قد يحتاجونه". وتشير إلى أن الأبحاث حول الإيثار وجدت أن تقديم الدعم يمكن أن يكون أكثر فائدةً من تلقِّيه. ولعل هذا الإيثار هو ما ترجمه الشاب المصري سامح عياد واقعًا ملموسًا في مقاطعة بيرجامو، الكائنة في منطقة لومبارديا شمال إيطاليا، التي تُعد واحدةً من أكبر بؤر وباء فيروس كورونا هناك. ففي وقت كانت بيرجامو تعيش حالة طوارئ بسبب فيروس كورونا، قدم سامح عياد -بائع الخضار المصري- مبادرة رائعة عندما قرر التخلي عن منتجات متجره دون مقابل لقاطني التجمع السكني الذى يعمل فيه. "قبل 10 أعوام رحبتم بي، والآن أريد أن أقول شكرًا لكم في هذه اللحظات الصعبة، كل شيء سيكون على ما يرام، إذا احتجتم شيئًا من الخضار والفاكهة التي تجدونها فوق هذه المنضدة، خذوه مجانًا، سامح"، تلك كانت رسالة "عياد" إلى الإيطاليين.

وهناك أيضًا مصادر إلهام لأشخاص تحت الحظر، كأولئك الذين رصدتهم عدسات وسائل الإعلام العالمية في عديد من الأماكن حول العالم وهم يغنون ويعزفون الموسيقى من خلال النوافذ المفتوحة للحفاظ على الروح المعنوية. "هذا هو الشيء الذي نحتاجه!"، يقول روبن دنبار، عالِم نفس تطوري في جامعة أكسفورد.

تفاءلوا تصحوا

وللخروج ناجين من ظروف التباعد الاجتماعي، أو لنقل تلك العزلة الإلزامية لعدة أسابيع كاملة، يشدد "هنري" على أننا نحتاج إلى: الهدوء والاستعداد النفسي. ولكن ماذا يعني أن تكون مستعدًّا نفسيًّا؟ يجيب بأنه يعتقد أن المهارة الأساسية التي نحتاج إلى شحذها في هذا التوقيت الصعب، هي الهدوء والمرونة النفسية.

من جانبه، يُعرِّف جيل نعوم -المختص بتدريس أساليب المرونة النفسية من جامعة هارفارد ومستشفى ماكلين- المرونة النفسية في أوقات الأزمات على أنها القدرة على تغيير المواقف والإجراءات الواجب اتخاذها عند ظهور أحداث جديدة أو غير متوقعة. وتتيح لنا هذه المهارة التعامل بسهولة أكبر مع الأزمات والمواقف الصعبة، دون الحاجة إلى فترات طويلة من الزمن.

يكشف "نعوم" عن أننا نستخدم هذه المهارة بالفعل في حياتنا اليومية، عندما نتعامل مثلًا مع تغييرات تحدث في أجندة العمل في اللحظة الأخيرة، أو أن تحتاج إلى تغيير ساعات العمل عندما يكون أحد الأولاد مريضًا مثلًا، أو الحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات في أثناء الفترات الانتقالية، كفترة ترك الوظيفة عندما لا تكون هناك بدائل أخرى متاحة، مشددًا على أن الحفاظ على عقلية مرنة وتحسينها سيكون مهارةً حاسمةً بالنسبة لنا، كبديل للوقوع في اليأس والقلق المزمن.

وبشكل عام، يتمتع البشر بالمرونة النفسية على نحوٍ ملحوظ، فقد عانى بعض الأفراد من مواقف وظروف حياة أسوأ بكثير مما يعتري البشرية الآن، على الرغم من صعوبة الوضع الآن بلا شك، ومع ذلك استطاعوا التغلب على الأمر والعودة إلى ما كانت عليه طبيعتهم السوية قبل مرورهم بالأزمة. يشير "سيغرين" إلى دراسات حالة لسجناء أمريكيين خلال حرب فيتنام، إذ جرى عقابهم بالحبس في زنازين صغيرة شديدة الصعوبة تسمى "أقفاص النمر"، وأحيانًا في أحواض من الماء حتى أذقانهم ولمدد طويلة. كانت إحدى المقاربات التى تنبأت بصحتهم النفسية على المدى الطويل هي مدى الشعور بالتفاؤل: فالسجناء الذين اعتقدوا أنه بغض النظر عن مدى سوء الأمور، سيبقون على قيد الحياة وستفوز بلدهم بالحرب في النهاية، أضحوا بصحة نفسية أفضل في وقت لاحق من حياتهم.

في هذا الإطار، يقدم هاني هنري مجموعة من النصائح للمساعدة في التحكم في مشاعر القلق والتوتر بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد، ومنها

التقليل من التعرض للأخبار السلبية، التي قد تؤدي إلى زيادة الإحساس بالهلع.

 وضع حد أقصى لمعرفة الأخبار عن تطور الفيروس، وليكن ٣٠ دقيقة في اليوم كمثال.

ضرورة الاستمرار في الحفاظ على الروتين اليومي، مثل الاستيقاظ في الموعد نفسه.

 محاولة الفصل بين الالتزامات العائلية والتزامات العمل في أثناء العمل في المنزل.

محاولة تعلُّم هوايات جديدة أو خلق روتين جديد حتى انتهاء هذه الفترة، أو أداء بعض المهمات المؤجلة.

اختيار الانحياز إلى التفاؤل، بالرغم من الوضع الحالي.

الالتفات إلى قيمة اللحظة الحالية وإلى قيمة الصحة.

محاولة البعد عن الأشخاص السلبيين والبعد عن مصادر التوتر.

محاولة مساعدة الآخرين، والخروج خارج الذات.

من الممكن تسجيل مقاطع من الفيديو مع أفراد العائلة والتحدث عن كيفية مواجهة العائلة لهذه الأزمة، فمثل هذه الطرق تعطي الإنسان نوعًا من التحكم والأمل.

طلب المساعدة من الآخرين، سواء من المقربين أو طلب المساعدة النفسية من خلال العلاج السلوكي أو المعرفي، ومن الممكن أن يتم ذلك عبر الإنترنت، خاصةً مع توافر وسائل التواصل من خلال الفيديو.

التعبير عن مشاعر الغضب أو الآلام النفسية والتحدث عنها؛ لأن الكبت قد يؤدي إلى الاكتئاب أو زيادة الأمراض النفسية التي قد لا تظهر آثارها الآن.

ممارسة تمارين التأمل من خلال تطبيقات الموبايل أو ممارسة أي نوع من التمارين الرياضية في المنزل.