لويس جريس
أول مرة سمعت اسمه فيها كانت عند إعلان زواج الدكتورة وداد أستاذة الفلسفة بالجامعة الأمريكية والدكتور رشدى سعيد أول خريج مصرى من جامعة هارفارد الأمريكية.. ومنذ ذلك التاريخ وأنا أتابع أخبار الدكتور رشدى سعيد التى تناقلتها الصحف بين الحين والآخر.. فقد اهتم الزعيم الكبير جمال عبدالناصر بهذا الشاب المصرى خريج جامعة هارفارد فأسند إليه عملية مهمة جداً.. قال له الزعيم جمال عبدالناصر: دكتور رشدى أنت تعرف باطن الأرض لأنك من علماء الجيولوجيا.. أرجوك تجول فى مصر وأخبرنا ماذا فى باطنها؟ وانطلق العالم الشاب يجوب البلاد شرقا وغرباً.. شمالاً وجنوباً.. وكوّن العديد من فرق البحث عن كنوز باطن الأرض المصرية.

وبدأت الأرض تبوح بأسرارها للعالم الشاب، وبدأ فى إرسال الاقتراحات إلى الرئيس الذى أمر بإنشاء مؤسسة مصرية تسمى مؤسسة التعدين وأسند رئاستها إلى الشاب الذكى الدؤوب وعينه ضمن أعضاء مجلس الأمة العشرة الذين يقوم رئيس الجمهورية بتعيينهم، وهذا الأمر ساعد كثيرا العالم الجيولوجى فى اقتراح العديد من التشريعات التى ساعدت كثيرا فى تسهيل مهمة العاملين فى مؤسسة التعدين لكى يرصدوا كنوز مصر من الحديد والزنك والنحاس والفوسفات إلى آخر منظومة المعادن المتناثرة فى صحراوات مصر الشرقية والغربية.

ولقد روى الدكتور رشدى سعيد قصته مع التعدين فى كتابه الشهير رحلة عمر، ولم يكن الدكتور رشدى سعيد يكتفى بالانغماس فى علمه الذى أحبه وعشقه، ولكنه كان لا يكف عن الاشتراك فى الحياة العامة والإدلاء بآرائه بخصوص قضايا مصر الاجتماعية والتعليمية والسياسية من خلال الكتابة فى جريدة الأهرام.

ولم يكن يكتفى بالكتابة ونشر المقالات، ولكنه كان يتعدى الكتابة إلى الحوار مع الجماهير من خلال الندوات وإلقاء المحاضرات العامة.

ويقول الدكتور رشدى سعيد: حكاية الاشتراك فى الندوات وحضور المحاضرات العامة نشأت معى منذ أن كنت طالبا فى كلية العلوم جامعة القاهرة، فقد كنت أنا وصديقى وزميل عمرى الدكتور محمد القصاص نتسابق لمعرفة برامج المحاضرات العامة فى قاعات جامعة القاهرة أو فى قاعة إيوارث بالجامعة الأمريكية فى ميدان التحرير والتى كانت تخصص أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء من كل أسبوع للمحاضرات، ففى يوم الاثنين كانت المحاضرات فى العلوم الاجتماعية، ويوم الثلاثاء كانت المحاضرات فى علم النفس وأثره على المجتمع والتنمية الاقتصادية أما يوم الأربعاء فقد كان يحاضر فيه الدكتور طه حسين ليلقى حديث الأربعاء الذى جمعوه فيما بعد فى كتاب بعنوان حديث الأربعاء.

أما يوم الخميس من كل أسبوع فكانت قاعة، إيوارت تقدم فيلماً أجنبياً من الأفلام التى لا يقترب منها مقص الرقيب.

ثم يضيف الدكتور رشدى سعيد قائلاً: تعرفوا هذه المحاضرات القيمة التى استمعنا إليها فى قاعة إيوارث كانت التذكرة بثلاثة قروش، والفيلم أيضا كان الدخول إليه بثلاثة قروش فقط.

ثم يتأسف وهو يروى هذه الحكاية ويقول لسامعيه: لست أدرى لماذا توقفت الجامعة الأمريكية عن تقديم هذه الخدمة لمجتمع القاهرة؟ فمازالت قاعة إيوارث فى مكانها بمبنى الجامعة الأمريكية بميدان التحرير، ولكنها لا تقدم المحاضرات أو ذلك الفيلم الرائع!!

ومنذ أكثر من ربع قرن ذهب الدكتور رشدى سعيد إلى الأستاذ مكرم محمد أحمد وكان يومها رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال، وكان زميلنا الراحل مصطفى نبيل يرأس تحرير كتاب الهلال وخاطب الاثنين قائلا: عندى كتاب باللغة الألمانية وقد ترجم إلى لغات أخرى ولكنه غير مترجم إلى اللغة العربية، إنه كتابى الهام عن نهر النيل والذى استطعت إنجازه من خلال منح دولية سهلت لى السفر والدراسة.

واستطرد الدكتور رشدى سعيد يضيف لمحدثيه: لست فى حاجة لأن أقول لكما أن هذا الكتاب يجب أن يقرأه كل مصرى، فلولا نهر النيل ما كانت مصر ولا نشأت الحضارة المصرية.. وقصة هذا النهر قصة طويلة ومثيرة، وكان من الممكن  أن يضيع.

ويصمت الدكتور رشدى سعيد ثم يعاود الحديث: كان من الممكن أن تضيع مياه النهر فى صحراوات مصر الشرقية والغربية، ولكن أن يستمر النهر حافرا مجراه مع الفيضان كل عام، ويرسب الطمى على الجانبين فيخلق الأرض الطيبة الخصبة التى يستطيع من خلالها الفلاح المصرى اكتشاف الزراعة وتنمو المجتمعات على ضفاف النيل، ثم يتفرع النهر إلى فرع رشيد وفرع دمياط.

وتنشأ الدلتا التى هى من أفضل الأراضى الزراعية خصوبة وتساعد على نماء المزروعات بشكل يشبه المعجزات، هذه القصة الرائعة لنهر النيل العظيم سجلتها فى كتاب، وإننى على استعداد لترجمة الكتاب إلى اللغة العربية ولن أتقاضى أجرا عن الترجمة، لأننى أرغب أن يباع هذا الكتاب بسعر تكلفة الطباعة والورق حتى يمكن للمصريين شراؤه واقتناؤه.

وفعلا أنجز الدكتور رشدى سعيد ما وعد به.. وأنجز أيضا زميلاى مكرم محمد أحمد ومصطفى نبيل وعدهما وطبعا كتاب نهر النيل للدكتور رشدى سعيد ويباع بمبلغ عشرين جنيها فقط، كما أنه قدم لهما أيضا كتاب رحلة عمر باللغة العربية وبسعر تكلفة الطباعة وثمن الورق فقط.

وكنت أحيانا أمازح الدكتور رشدى سعيد قائلا: خدت نصيبك من بيع كتبك فى دار الهلال، فيقول لى ضاحكا:

- يا عم لويس ما بين الخيرين حساب!

فعلا لا يوجد بين الذين يقومون على خدمة الوطن بما يقدمونه لأبنائه من علم ومعرفة.

ولقد تناقلت الصحف فى مصر بعد وفاة الدكتور رشدى سعيد أنه باع مكتبته العلمية لكى يسافر إلى أمريكا بعد أن أصدر الرئيس السادات أمرا باعتقاله فى الخامس من شهر سبتمبر عام 1891، وفعلا صدر أمرا باعتقاله ضمن الكشف الذى ضم 6351 شخصا، ولكن الدكتور رشدى سعيد كان قد شعر بأن الرئيس السادات ينوى اعتقاله، فباع مكتبته، وسافر مع زوجته الدكتورة وداد سعيد أستاذة الفلسفة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وابنه وابنته.

واستقر الدكتور رشدى سعيد فى مدينة واشنطن عاصمة أمريكا.

ولكن بعد وفاة السادات وإنهاء أوامر الاعتقال والإفراج عن المعتقلين استطاع الدكتور رشدى سعيد الحضور إلى مصر.

كان يحضر إلى القاهرة كل عام مع انتصاف شهر ديسمبر مع زوجته ليمضيا ديسمبر ويناير وفبراير فى مصر للقاء الأصدقاء والأحباء والقيام بزيارة بعض الأماكن فى الصحراء الشرقية أو الغربية وهو أمر لايمل الدكتور رشدى سعيد من تكراره.

وخلال تلك الزيارات السنوية كان يحاضر فى مختلف الجامعات أو المنتديات خلال وجوده فى مصر، كما كان يقوم بكتابة المقالات فى الأهرام من آن لآخر، فاهتمامه بالشأن العام المصرى لم ينقطع حتى بعد إقامته فى أمريكا.

خلال إحدى زياراته أحضر معه حفيدته وهى فى الخامسة عشرة من عمرها على أمل أن تعجبها مصر التى يحدثها عنها كثيرا وكان لديه أمل فى أن تحضر للدراسة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة حتى تتعرف أكثر على مصر التى يحبها جدها بجنون.

ولكن حفيدته بعد ثلاثة أشهر من الإقامة فى مصر قالت له: جدى لا أستطيع البقاء هنا، فالناس فى الشارع تبحلق وتكاد تنهش جسدى من خلال نظراتهم.. جدى لا أستطيع تحمل نظرات الرجال والشباب إلى جسدى.

ويقول لنا دكتور رشدى سعيد: أحزننى هذا الأمر كثيرا.. فقد كنا شبابا مصريين ولم نخدش حياء البنات بالنظرات كما يفعل الرجال والشباب اليوم!

إنه أمر محزن جدا.

وخلال آخر زيارة له لمصر وكانت تقريبا منذ خمس سنوات أسعده قرار لابنه الذى قرر شراء شاليه فى الغردقة، ذلك أن هذا الشاليه سوف يجعل ابنه وأسرته يجيئون سنويا إلى مصر.

ولكن يبدو أن الدكتور رشدى سعيد فى سنواته الأخيرة أصابه الاكتئاب لعدم قدرته على المجىء إلى مصر التى أحبها وأحب كل شبر فيها.

هذه كلمة سريعة عن فقيد مصر الغالى العالم الجليل دكتور رشدى سعيد وأذكر أنه فى آخر زيارة له ذكر لى أنه كان آخر العلماء المصريين الذين استقبلهم المجمع العلمى المصرى ليضمه إلى عضوية المجمع بصفته عالما جيولوجيا اكتشف النهر الخالد وروى قصته كاملة وكذلك لأنه الجيولوجى الذى كشف الستار عن كنوز مصر المعدنية وأسس مؤسسة التعدين المصرية التى حفظت ثروات مصر من الضياع، وإذا كنت فى هذا الموضوع قد أشرت إلى زميل عمره الدكتور محمد القصاص فإننى أنتهز هذه المناسبة الحزينة لكى أدعو المصريين جميعا، وخاصة أبناء الجامعات وفى مقدمتهم جامعة القاهرة التى تخرج منها العالمان الجليلان د. رشدى سعيد ود.محمد القصاص.

فقد حرص الاثنان على القيام بعملهما خير قيام وإلى جانب ذلك لم يهملا الشأن العام لقضايا مصر المعاصرة.

أهتم الدكتور رشدى سعيد بنهر النيل وتنمية مصر.

واهتم الدكتور محمد القصاص بالبيئة.

ولتكن بداية الاهتمام من جامعة القاهرة باثنين من أبناء كلية العلوم التى تخرج منها دكتور مشرفة باشا.

رحم الله الدكتور رشدى سعيد وأيضا الدكتور محمد القصاص وألهم الله زوجتيهما الصبر على الفراق وبارك الله فى أبنائهما.

أما على المستوى الرسمى فإننى أناشد المسئولين بإطلاق أسمي رشدى سعيد ومحمد القصاص على منشآت مهمة ترعى العلم والعلماء وبالأخص من أبناء أكاديمية البحث العلمى حتي يتربى لدينا جيل جديد من العلماء الذين يخدمون الوطن.

فمن غير العلماء لن يتقدم الوطن وبغير العلم لن ينصلح حال مصر الاقتصادى والسياسى والاجتماعى والتعليمى.
نقلا عن روز اليوسف