13 ـ الباب الثانى الفصل الأول
وليمة العشاء الأخير وتأسيس سر الإفخارستيا
كمال زاخر
ـ وليمة العشاء تقليد يهودى مستقر تمارسه العائلات اليهودية تحمل اشواقاً لمجئ المسيا، أقامه المسيح بنفسه لا كتقليد معتاد بل "أقامه بنفسه وليمة هى هى وليمة نفسه، وليمة المسيا، وليمة خبز السماء لكل الدهور". "فكان فجراً مشرقاً للكنيسة فى وسط ليل العالم المظلم، أنار لنا فيه المسيح طريق الخلود وسط تعثرات الدنيا".
 
"أطعمنا فيه وبيديه الخبز الحى النازل من السماء الذى كل من يأكل منه لا يجوع إلى العالم ولا يموت بالخطية، بل يستوطن السماء."، "نلنا فيه الحضور الدائم لشخص يسوع المسيح معنا، مصلوباً ومُقاماً إلى انقضاء الدهر". "بانتظار فجر يوم آخر أكثر إشراقاً يأتى فيه المسيح، بمجده ومجد أبيه مع ملائكته.".
 
ـ لم يكن العشاء مجرد تقليد يهودى يقيمه معلم مع تلاميذه،"ولكن حينما جاء إلى كسر الخبز وإلى بركة الكأس قال ما لا يقوله بشر، فقد باشر المسيح كهنوته الأزلى، وكشف السر المكنون منذ الدهور فى مشورة الآب."، "المائدة صارت أمامه مذبحاً، والخبز فى يديه صار جسداً حياً مكسوراً وممزقاً، والخمر فى الكأس تحول إلى دمه، ووقف الكاهن مخضَّباً بدم نفسه، المسيح قدم نفسه ذبيحة. الحَمَل الذى ظل رؤساء الكهنة يطاردونه ليمسكوه ويقدموه قبل العيد (لئلا يكون شَغَبٌ فى الشعب ـ مت 26 : 5)، سلم نفسه ليد الآب قبل أن يضعوا عليه الأيادى، وأكمل بالسر بيد نفسه مشورته الأزلية، وهم لا يزالون يتشاورون عليه سراً، وسبق وذبح نفسه ـ بالنية ـ فى وسط أحبائه قبل أن يصلبوه بين لصين.".
 
ـ كانت كلمات البركة القديمة على الخبز القديم فى الولائم القديمة تربط ذهن إسرائيل القديم بالأرض الطيبة التى أخرجت هذا الخبز الشهى وتربطه بالتالى بالعهد المقطوع مع إبراهيم لتملك هذا الوطن المتزعزع، أما بركة المسح الجديدة على هذا الخبز السمائى وعيناه نحو السماء فتربط ذهن اسرائيل الجديدة (الكنيسة) بالسماء التى أخرجت هذا الخبز الحى، وتربط ذهنها أيضاً بالعهد الجديد المقطوع مع المسيح ابن الله بسفك دمه لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظ لنا فى السموات، كوطن أفضل أى دائم.
 
ـ "ثم أخذ الكأس وشكر".
يتساءل الكاتب بحدة :
"من أجل أى شئ شكر المسيح أو بارك على الكأس؟
هل من أجل الطعام الذى يُشبع كل ذى جسد؟
هل من أجل أن يرد المُلك لبيت داود؟
هل لبناء أورشليم واستعادة مجد الخدمة والذبائح فى الهيكل؟
أيعطى الرب دمه الإلهى الثمين ثمناً لتفاهات الإنسان؟
هل يمكن أن يكون الصليب ثمناً لمملكة داود أو فدية لبناء أورشليم أو توطئة لإعادة طقوس الذبائح من عجول وتيوس؟!!"
وبنفس الحسم يكشف الكاتب عن معنى شكر المسيح ومباركته على الكأس :
ـ "إن مباركة المسيح وشكره على الكأس لم يكونا إلا صورة عميقة لمشاعره من نحو الآب ومنظر الصليب أمامه، والهاوية والقيامة ومنظر ملايين المفديين من بنى البشر يترنمون ترنيمة الخلاص وقد بيَّضوا ثيابهم فى دمه الثمين يتقدمون به إلى الآبّ !!.
ويستطرد الكاتب مؤكداً "كل هذا كان فى قلب الرب حينما مد يده بالكأس إلى تلاميذه قائلاً : هذا هو دمى الذى للعهد الجديد الذى يُسفك من أجل كثيرين (مت 26 : 28). 
 
كان هذا هو موضوع تسبيحه قبل أن يخرج إلى جبل الزيتون.".
ـ "هذا هو جسدى ... هذا هو دمى" 
كان هذا إعلان تغيير مفهوم ومعنى ولائم العشاء التقليدية، فلم تعد مناسبة للفرح والسرور بالأكل والشرب، ولم تعد استرجاع مشاعر أمجاد مملكة أرضية، "فها هو الملك الأبدى يموت، والكاهن الأعظم يذبح نفسه، والعهد الجديد يتأسس بدم فى كأس"
وينبهنا الكاتب إلى التحول الذى أسسه المسيح هنا "كانت كأس البركة القديمة تمتد بذهن إسرائيل المادى لتربطه بأمجاد مستقبل كلها أرضية زمانية للعظمة العنصرية، وكان المسيا هو محقق الآمال الموعودة. هوذا الآن المسيح، مسيا الصليب والجروح والمسامير وكل الآلام والأحزان المدركة وغير المدركة، يمد يده بالكأس ليعطينا من داخلها سر المسيا الحقيقي، الذى ذُبح ليملك بالصليب، سر المجد الحقيقي، الذى دُفن في الأرض ليقوم بمجد الآب، سر التهليل والتسبيح بروح الكهنوت المغسول (بدم المسيح الذى بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحى عب 9 : 14) ويشير الكاتب لكلمة لتخدموا باليونانية (لاتريفين) بأنها كلمة طقسية تفيد خدمة الكهنوت ومنها اشتقت كلمة ليتورجيا.
ـ خذوا كلوا هذا هو جسدى المكسور لأجلكم، اصنعوا هذا لذكرى (1كو 11 : 24)
ـ هذه الكأس هى للعهد الجديد بدمى، اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري (1كو 11 : 25)
يكشف الكاتب هنا التحول الذى صنعه المسيح فى مفهوم الذكرى ومضمونها بل ومعناها "هنا الحد الفاصل الذى أنهى على كل معنى ومضمون للوليمة القديمة بطقسها القديم"
 
"إذاً، فلا ذكرى أرض ولا وطن ولا مواعيد آباء ولا مملكة بيت داود ولا أورشليم ولا هيكل!!"

 
 
"فالخبز وقد صار جسد المسيح الحى والخمر وقد صار دم المسيح المحيى، انقطعت الصلات التى كانت تربطهما بأرض إسرائيل ومواعيد إسرائيل ومُلك إسرائيل وهيكلها"
 
"فالوليمة لم يبق فيها بالروح إلاَّ خبز وخمر، والخبز أصبح جسد المسيح، والخمر أصبح دم المسيح، والبركة على الخبز أصبح لا علاقة لها بالماضى، فقد ارتبطت بذكر المسيح الدائم لحضوره، والبركة على الكأس لا علاقة لها بالمستقبل، فهى ذكر أيضاً للمسيح، لحضوره. أو بمعنى أعم وأشمل، إن كل البركات والصلوات والتضرعات التى تُقدَّم على الخبز والخمر هى ذكر دائم للمسيح، بمعنى أنها مرتبطة به وحده كما هو مرتبط بها. فهما ـ أى الخبز والخمر ـ جسده ودمه، وهذا هو مضمون الحضور الدائم، وبذلك فهما لا يختصان بأمور أو أشياء أو أشخاص مضت، ولا يتعلقان بآمال لم تتحقق ـ كخبز وخمر الولائم القديمة ـ بل إن خبز وخمر الإفخارستيا هما فى الحقيقة مسيح حاضر، نأكله كلما أكلنا ونشربه كلما شربنا، ونذكره لأنه يكون حاضراً فينا بجسده ودمه وماثلاً أمام أعيننا بآلامه وبصليبه ...(فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تُخبرون بموت الرب ....) (1كو 11 : 26).
وينتهى الكاتب إلى أن عشاء الرب صار إخباراً بموته الذى تم للفداء عن خطايا وجهالات ماضى الإنسان كله التى احتملها الله سابقاً بإمهال وطول أناة (هذا هو دمى الذى للعهد الجديد الذى يُسفك من أجل كثيرين) (مر 14 : 24).
 
وعليه فـ "الإفخارستيا هى خبر موت ونطق فعلى حامل لوقائع الصليب بالسر ... ويمكن اعتبارها مختصراً واقعياً يشرح على مستوى الأكل والشرب مفهوم التقليد المسلَّم حسب الكتب (المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب) (1كو 15 : 3)".
 
"لذلك فكل افخارستيا نقيمها هى عشاء الرب وهى موت الرب، ليست مجرد ذكرى، لأننا نشترك فى الموت، وننال كل المتحصلات منه  ـ أى الخلاص والغفران ... وستظل الإفخارستيا قائمة لازمة طالما بقيت حاجة على الأرض للتوبة وطالما بقيت نفوس تطلب مغفرة الخطايا وبقى إيمان بعمل الجسد والدم وحضور الرب، إلى أن يأتى الرب!!.".
ومازال للطرح بقية.