محمد طه
أرجع مقعدك للخلف
اربطت حزام الأمان
وهيا ننطلق..
***
إنت ليك كام شخصية؟
فيه منك كام صورة؟
عندك كام نسخة؟
طب عندك كام بروفايل على فيسبوك؟


كام مرة بتكون في مكان ما بشخصية.. وفي مكان تاني بشخصية مختلفة تمامًا.. بتكون مع ناس معينين بصورة.. ومع ناس تانيين بصورة غيرها خالص.. في موقف ما، بتطلع نسخة منك.. وفي موقف آخر، تطلع منك نسخة قد تكون عكسها في كل شيء.

بلاش انت.. مين من الناس اللي تعرفهم بتحس إنه عايش بكذا وش.. بيتلون بأكتر من لون.. بيغير جلده كل شوية.
***
فيه مرض شهير فى الطب النفسي اسمه (اضطراب الشخصية المتعددة) ،Multiple Personality Disorder وهو من الأمراض النفسية الغريبة والمثيرة للاهتمام.. واللي تناولتها كتير من الأعمال الأدبية والفنية.. من أول (دكتور جيكل ومستر هايد)، لغاية Fight Club ، و Split ، و Black Swan ، و Hide and Seek ، مرورًا طبعًا (ببئر الحرمان).

هنا المريض بيكون عنده أكتر من شخصية، في العادة شخصيتين، واحدة منهم بتكون غالبًا عكس التانية بالظبط.. يعني شخصية خجولة، وشخصية جريئة.. شخصية ضعيفة، وشخصية قوية.. شخصية منظمة، وشخصية عبثية.. شخصية مؤدبة، وشخصية غيرمؤدبة على الإطلاق.. وهكذا.

مش بس كده..
ده ممكن كل شخصية فيهم يكون ليها سن غير التانية.. يعني المريض وهو في الشخصية الأولى يتكلم بلسان وصوت وحركة طفل عنده ست سنين، وفي الشخصية التانية يتكلم بلسان وصوت وحركة واحد عنده تلاتين سنة.

برضه مش بس كده..
ده بيحصل كتير إنه يكون فيه تغيرات بيولوجية جسدية (بين الشخصيتين.. يعني شخصية فيهم يكون مقاس نظرها ستة على ستة، والشخصية التانية مقاس نظرها ستة على ستة وتلاتين.. شخصية فيهم يكون عندها حساسية صدر.. والشخصية التانية ماعندهاش.. شخصية فيهم يكون ضهرها محني أثناء المشي.. والشخصية التانية ضهرها مفرود، وده يديها طول وعرض أكتر.. إحنا بنتكلم عن اتنين بني آدمين غير بعض.. عايشين في نفس الجسم. وطبعًا ممكن شخصية فيهم تكون متجوزة ومخلفة.. والشخصية التانية عزباء ومُضربة عن الزواج.

شخصيتين مايعرفوش أي حاجة عن بعض.. كل شخصية فيهم ليها حياة منفصلة.. ودواير مختلفة.. وأصدقاء وأماكن وحكايات وتاريخ غير التانية.. علشان كده بيكون عند كل واحدة فيهم فترات زمنية منسية تمامًا، وأحداث تندهش لما حد يحكي لها عليها، كأنها ماكانتش موجودة.. لأنها بالفعل ماكانتش موجودة.. واللي كان موجود حد تاني.

المفاجأة بقى.. إنه زي ما فيه مرضى عندهم شخصيتين.. فيه مرضى عندهم ثلاث أو أربع أو خمس شخصيات.. لدرجة إن فيه حالة مشهورة لشخص اسمه (كاميرون ويست)، كان عنده أربعة وعشرين شخصية غير بعض.. منهم ولد صغير اسمه (كلاي) سنه تسع سنوات.. (كاميرون ويست) ومراته ظهروا في برنامج أوبرا وينفري سنة 1999 ، وظهروا معاها تاني في 2014 .

اضطراب الشخصية المتعددة.. موجود في نسبة 1 إلى 3 في المية من البشر، تبعًا لآخر بحث عمله (سبيجل) سنة 2011.

وطبعاً علاجه حكاية كبيرة جداً..

لكن..
في الحقيقة.. وبشكل ما.. كل واحد فينا جواه شوية شخصيات غير بعض.. أي نعم ماوصلتش لدرجة مرض واضطراب وانفصام.. بس انت نفسك تقدر تشوف بوضوح إزاي بتكون مع فلان غير مع فلان.. في المكان ده غير في المكان ده.. وسط الناس دول غير وسط الناس دول.. في الموقف ده غير في الموقف ده.

بافتكر (شيرين) لما وصفت الحكاية دي بكل بساطة، وهي بتقول:
أنا كتير..
أنا ألف حاجة على بعضها..
في حاجة واحدة..
أنا واحدة عايشة لوحدها.. مش حاسة وحدة..
في ضحكي حزن غريب قوي.. وفي حزني ضحكة.

طيب هو إيه اللي ممكن يعمل فينا كده؟
إيه اللي ممكن يخلي حد مننا (كتير)؟
إيه اللي يضطرنى إني أعمل نسخ تانية غيري أواجه بيها العالم، وأتعامل بيها مع الناس؟
الكلام بيقرب منك شوية..
مش كده؟
طيب.. تعالى نشوف علم (السيكوباثولوجي) بيقول لنا إيه؟
* * *
قدام أي صدمة نفسية بنتعرض لها، بيكون عندنا عدة فرص واحتمالات. الاحتمال الأول.. إن مقاومتنا النفسية تقدر تتصدى ليها، ومناعتنا الذاتية تقف قصادها، ونقدر نواجه الصدمة، ونتجاوزها.

الاحتمال التاني.. هو إننا نفضل في حالة خناقة داخلية مستمرة مع الصدمة دي.. ندخل حرب نفسية شعواء، فيها أسلحة وهجوم ودفاع وكر وفر.. وده يظهر علينا في شكل أعراض وأمراض (عُصابية) زي الاكتئاب والتوتر والأمراض النفس- جسدية، وغيرها.

الاحتمال التالت.. هو إننا نتراجع (ننكص) عدة خطوات للخلف، ونتقهقر في تاريخ نمونا النفسي، لغاية ما نوصل لأكتر فترة كنا حاسين فيها بأمان وراحة واستقرار، ونقف عندها.. وده ينتج عنه أعراض (ذهانية) زي الفصام والضلالات والكتاتونيا، وغيرها.

فيه بقى احتمال رابع عجيب جدًّا.. وهو إننا نحاصر الصدمة دي جوه عقلنا، ونحتجز الجزء المصدوم المجروح فينا، ونخفيه داخل أعمق مكان داخلنا.. علشان نحمي نفسنا من الألم وشدته.

خليني أديك أمثلة..

واحد شاف حادثة على الطريق.. شاف مناظر الموت والدم والجثث، ماقدرش يستحمل، فعقله قرر دون قصد منه إنه ينسى كل اللي شافه، ويعتبر اللي حصل كأنه ماحصلش، ويركن هذه الخبرة على أحد أرفف نفسه، وتتعامل معها ذاكرته كأنها لم تحدث.. بنسمي ده فقدان الذاكرة الانشقاقيDissociative Amnesia بمعنى إن جزء من عقله انشق عن باقي الأجزاء، وانفصل عنها، علشان يحمي صاحبه من الألم الشديد، والصدمة الموجعة، اللي ممكن تؤدي بيه إلى الاكتئاب أو الجنون أو حتى الانتحار.

فيه بقى شكل تاني من أشكال الانشقاق.. وهو إن الشخصية دي كلها، اللي شافت الحادث واتألمت فيه، تنفصل جزئيًّا عن وعي صاحبها، وتنزوي في ركن ما داخله.. ويطلع (جنبها) شخصية تانية مختلفة، ليها اسم وتاريخ وذكريات أخرى، ليها صفات وخصائص جديدة، أقوى وأجمد، وربما أقسى.. وده يبقى اسمه ،Dissociative Identity Disorder.. أو اضطراب الهوية الانشقاقي.. اللي هو الاسم التاني لاضطراب تعدد الشخصية.

ده برضه بيحصل أحيانًا مع بعض البنات اللي بتتعرض للإساءة الجنسية أو الاغتصاب في سن صغير.. فيضطر وعيها إنه يتقسم نصفين.. نصف فيه شخصية الطفلة الصغيرة اللى استُغلّت أو اغتُصبَت.. ونصف فيه شخصية تانية غيرها.. قد يكون هدف وجودها هو الانتقام من كل رجال العالم.. وتتبادل الشخصيتين الحياة بشكل لا تعلم عنه صاحبته نفسها شيئًا.

طريقة صعبة جدًّا.. وذكية جدًّا.. بيستخدمها العقل للحفاظ على صاحبه من الانهيار النفسي التام، بإنه يفكك بعض أجزائه.

كل مرة كنت بتسرح فيها، وتغيب عن هنا والآن.. وعيك كان بيتقسم وينشق.. ويغترب عنك شوية.. لأنه مش عاجبه حاجة حاصلة هنا ودلوقت..

كل مرة قعدت تفتكر موقف معين أو تفصيلة خاصة حصلت قدام عينيك.. وعيشتها فى يوم من الأيام.. لكنك ماقدرتش.. وعيك كان محتفظ بالموقف ده فى أحد جيوبه الخفية داخله.. لأنه مش مستحمل أو مش قابل أحد جوانب هذا الموقف..

كل مرة انتبهت ولقيت نفسك تايه فى طريقك وانت مروح.. أو ناسى انت معاك مين على خط التليفون.. أو بتدور على النضارة وانت لابسها.. اعرف ان فيه حتة منك منفصلة عنك.. مخاصماك.. شغالة بمعزل عن باقى وظائف عقلك..

كلنا.. وبدون استثناء.. نخفى بعض أجزاءنا عنا كل يوم..
نتوه داخلنا كما نتوه خارجنا بالضبط..
نلعب لعبة النسيان مع أنفسنا ببراعة شديدة..

عجيبة تلك النفس البشرية..
فيها ما هو أغرب من الخيال..

أسألك سؤال..
انت متأكد انك انت اللى بتقرا كلامى دلوقت؟

استنى..
تقدر دلوقت تقدم مقعدك للأمام..
وتفك حزام الأمان..
حمدالله على السلامة.